مدينة يبهرني عريسها المالح. ليلها يسرق من النهار الضوء والضوضاء والزحام. وقفتُ أمام فندق ضخم ومهيب، كل قسمات الترف بدت على واجهته الزجاجية، يطل على البحر وكأنه يخت كبير وسط البحر..!!! دلفت إلى الفندق، إلى البهو الواسع والشمس الزجاجية معلقة بالسقف ثابتة، ويتساقط منها الضوء. وصوت موسيقى هادئة لهمسات الجالسين على المقاعد الملونة في الزوايا المتعددة. وسِرتُ على سجاد أحمر حتى وجدت نفسي أمام موظف الاستقبال.. وقد سبقت ابتسامته الكلمات. قلت له: أسعد الله مساءك. أنا حجزت لديكم عبر «الإنترنت». طلب مني هويتي، ثم قال: ما هي الغرفة التي تريدها!!!! قلت له أريد غرفة في الدور العاشر، ويكون لها شرفة مطلة على البحر..!!! قال لي: سيدي، سعر الغرفة المطلة باهظٌ!!! هل أنت ممن يعشق رؤية البحر..؟!!! قلت له: أنا أعشق البحر كثيراً، وأخاف منه أكثر. معادلة نفسية صعبة أن يجتمع العشق والخوف معاً؛ فلا الخوف يزيل العشق، ولا العشق يبدد الخوف. لا سيادة مطلقة على رغبتي بين قلبي وعقلي!!! تبسم الموظف وقال: سيدي، واجبنا أن نحقق رغبة الزبون دون أن نفهم تفسيراً لها.. ولكن أشعر أنك كتاب وجداني أحب أن أتطفل وأقرأ منه..!!! لِمَ يا سيدي اخترت الدور العاشر وهو الدور الأخير، ولدينا غرف متاحة بالدورين الأوّل والثاني، ومطلة على البحر، وأكثر قرباً منه، بل أقل تكلفة..؟!! قلت له: حسناً، سوف أجيبك على أن يكون هذا سؤالك الأخير!!! اخترت هذا العلو الشاهق لتكون المسافة بعيدة بيني وبين البحر وأمواجه وأعماقه؛ لأني أخاف أن أغرق فيما أعشق لهذا اخترت هذا العلو!!! أعطاني مفتاح الغرفة «1003». شكرته، وحملت حقيبتي، وصعدت إلى الغرفة. فتحت باب الغرفة، وأشعلت الأنوار؛ لأرى المكان بكل تفاصيله.. باذخ الجمال، كأنها لوحة رُسمت بيد فنان بارع.. إلا أنني شعرت أن هذه الغرفة لا تعرفني ولا أعرفها.. ولا تشبه غرفتي التي هناك في عنيزة، تطل على نخيل والدي..!!! وحين تشعر بالغربة، غربة النفس والمكان، تكون وسادة الحرير التي على السرير الوثير أشد قسوة.. رصيف مكسور يتوسده شريد..!!! منتصف الليل والدهشة في بدايتها والوحدة أطبقت بكامل أنيابها على خاطري!!! وقفتُ على شرفة الغرفة، وكان منظر البحر المسهد رائعًا، والأمواج تتسابق كالأطفال في يوم عيد، وزبد الموج له بريق كالألماس في رقصة مد وجزر..!!! أنا لن أنام!! طلبت قهوة.. أحضرها لي نادل مقهى الفندق. جلست بالشرفة وقهوتي معي، هذه الأنثى السمراء الفاتنة المسكوبة في فنجاني.. مذاقها ليس منها بل هو مني؛ لأنها عملت من (بُن هواجس) الممتزج بريق فمي!!! وما بين ثرثرة صمتي القريب مني، وصوت الموج البعيد الهامس لي، شعرت أني أريد أن أسمع صوتاً غير صوت صمتي. أحضرت كرسيًّا آخر من داخل الغرفة؛ ليكون مكان السيدة التي ستسهر معي، وتجلس بجواري، وتغني لي..!!! هل أنا أهذي..!؟ لا.. أبدًا..!!! إنها سيدة عشت مع صوتها في ليالي السهر والسفر. وضعت جوالي برفق على الكرسي للطيبة نجاة الصغيرة، ومنه راحت تغني: أنا بعشق البحر زيك يا حبيبي حنون وساعات زيك مجنون ومهاجر ومسافر وساعات زيك حيران وساعات زيك زعلان وساعات مليان بالصمت أنا بعشق البحر وكنت منسجماً بين دفء لُعاب فنجاني ودفء صوتها وصوت الشارع الناعس وقت السحر وهمسات الأمواج. فجأة وقفت كقائد الفرقة الموسيقية «المايسترو»، وجهي إلى البحر كأني أريد أن أشرب منه، ورحت أغني مع نجاة الصغيرة. أنا بعشق البحر وبعشق السماء لأنهم حياة وأنت حبيبي أنت كل الحياة!!! بدأت النسائم باردة، وأنا ما زلت واقفاً أطل على البحر من بعيد.. وأبوح له بكلمات وكلمات من مكنون نفسي وأحزاني. أردت أن أتغير في هذه اللحظة من شيخوخة الليل. أنا إنسان كتوم، أحافظ على أسرار آلامي وحزني، لا أبديها لأحد، كأنها أعز ما أملك. رحت أشتكي وأقول رحت أبكي وأقول رددت أسماء عرفت وهمست بأسماء من أحببت وصرخت بكل ما فيّ وبكيت وبعد نوبة هذا الجنون ضحكت..!!! هل أنا أسمعت نفسي نكتاً وطرائف..؟!!! لا.. ليتني فعلت، ولكني ما فعلت!!! ربما ضحكت سعادة بأني لم أفقد ذاتي، ولم أجرح كبريائي. الحمد لله، البحر أبكم لا يسمعني، وأخرس لن يقول ما سمع مني.. شجوني داخلي، لم تغادرها!!! عدت أنظر إلى الأمواج بصمت، وقد زادت سرعتها، وصخور الشاطئ الخالي تغتسل بسياطها. شعرت بأن أمواج البحر المتلاطمة تريد أن تحلق وتتسلق لتصل إلى غرفتي..!!! كأن البحر يريد أن يسألني عن الحبر الذي لدي في حنجرة قلمي وأوتار قيثارة صمتي. البحر يريد أن يغوص في بحر حبري الممتد بين حنايا الضلوع. شعرت أن الكتابة تلتف حول عنقي كطفلة مدللة، وترتعش في أصابع يدي. تريد أن أقبل زيارة البحر.. على شواطئ الحبر في أعماقي!!! وعدت إلى داخل غرفتي.. إلى حقيبة سفري، أريد أن أفتح الموانئ للأمواج؛ كي تغتسل من بحر الحبر في أعماقي!!! لأنه بحر الأعماق.. بل محيط عمري وأيامي..!!! الشواطئ فيه صخور إسفنجية، شربت الدموع حتى أوجعها الظمأ.. إن اتكأت أمواج البحر عليها ستغرق في دموع حزني، وإن أبحرت فوق أمواج أعماقي ستجد أن صمت أمواجي يعلو على صخب أمواج البحر..!!! يا أيها البحر المغامر في جغرافية ذاتي وفي تضاريس أعماقي، جئت إلى كوكب فيه بحر من الحبر وأنهار من الحبر، جئت إلى دروب عبّدتها الحيرة بلا عناوين، تسلكها شوارد نفسي !!! بحري يشبه بحرك، لديك أسماك تلتهم الأسماك، وأنا أسماكي الصغيرة الملونة مثل أحلامي الجميلة، وقصة حبي الرائعة واللقاء الذي يجلس معنا على مقاعد القرب الذي يجمعنا، ولكن سمك (قرش الأيام) التهم كل حلم تخيلت، وكل أمل عشت، وكل حرف محبة كتبت، وكل ألفة دللت.. لكنها تبقى لدي في مقبرة ذاكرتي لا تموت!! أيها البحر.. أنت محظوظ أكثر مني لأن الناس تبحر فيك.. وتزدحم الشواطئ بالزائرين لك. وعلى الشاطئ يباع الورد، وتباع الحلوى والآيسكريم، كأنه من مائك المالح يزرع الورد ويتفتح وتصنع الحلوى والآيسكريم!!! أما أنا بحر أعماقي الشواطئ فيه خالية ومهجورة.. أكتب لحبيبتي عن اللؤلؤ كأني (طواش) محترف، أختار لها أثمن دانة. وأرسم جمال الشروق والغروب عند البحر في كوكب أوراقي، وكل من يرى اللوحة لا يرى الشمس عند الفجر الرضيع، ولا الشمس في شيخوخة الأصيل؛ لأن شمس الذات لا تُدرَّس في كتب الجغرافيا والفلك..!!! حتى رومانسية البحار فيّ حين ينقش على المجداف اسم امرأة أحبها يعود موج البحر ليمحو الحروف!!! أيها البحر عُد حتى لا تغرق في بحر الحبر في أعماقي..!!! في هذه اللحظة «رفع أذان الفجر». انشرح صدري.. لملمت أوراقي.. أغلقت الموانئ في حقيبة سفري.. توضأت وصليت الفجر، ثم قرأت وردي، واسترخيت على السرير الوثير، ونمت!! في الساعة الحادية عشرة صباحاً يُطرق باب غرفتي. فتحت الباب، وإذا بموظف خدمة الغرف أحضر كيكة كُتب عليها ‹MR. Aziz Happy Birthday وباقة ورد، معها كارت معايدة، كتب عليه بالعربي (السيد عزيز من هويتك اتضح لنا أن هذا اليوم هو عيد ميلادك. أحببنا أن نشاركك هذه المناسبة السعيدة.. إدارة الفندق 21/ يناير - جدة). كيف يتذكر ميلادي من لا يعرفني؟ وكيف ينساني من يحبني؟ وكيف نسيت نفسي؟ وضعت قلمي بين أغصان الورد، وألقيتها من شرفة الغرفة على البحر!!! لو كان للغرفة 1003 ذاكرة لكُتب فيها أني كنت هنا في ذكرى ميلادي، وأني احتفلت وحيدًا بصمت وغناء وهمس، وأني قد ضحكت وبكيت!!!! ** ** عبدالعزيز حمد الجطيلي - عنيزة e-mail: [email protected] twitter: @aljetaily