يبدو أن كثيرا من المدن لازالت غارقة في همومها اليومية ومنشغلة جداً بمعالجة ما هي عليه من إرث يعج بالمشاكل والقضايا التي لا تكاد أن تنتهي، كنتيجة حتمية لتجاهل «التخطيط العمراني» في حقبة من الزمن كأداة رئيسة لتسيير حياة الناس وتنظيمها من خلال صنع أماكنهم، مما أدى الى بناء نموذج أولويات تشغيلية في إدارة هذه المدن جعل من «أنسنتها» أمراً ثانوياً، ودفع بسكانها إلى العيش بنمط حياة «قسري» فرضتها بيئتهم العمرانية التي يقطنون بها. أين يمشي سكان الحي؟، هذا السؤال «المحرج جداً» لإدارة أي مدينة لا تضع علاقة الإنسان بالمكان مهمتها الرئيسة والبند الأول في منظومة أعمالها، إذ إن كثيرا من الأحياء والمجاورات السكنية تم تخطيطها وتنفيذها دون أية اعتبارات إنسانية، على مرأى ومسمع من المتخصصين في إدارة وتخطيط وتصميم المدن الذين يتحملون مسؤولية غيابهم عن هذا المشهد العمراني الدرامي المؤسف طوال سنوات مضت « ولازالوا». إذا لم يكن في نطاق المجاورة السكنية التي تعيش فيها مضمار للمشاة، أو أن أطفالك لا يستطيعون اللعب أمام المنزل بأمان، وأفراد عائلتك لا يستطيعون الذهاب الى المسجد والمدرسة والمتجر مشياً على الأقدام من خلال شبكة مشاة آمنة ومنتظمة ومستمرة، فأنت حتماً تعيش في حي «غير إنساني»، لم يُخطط من أجل الإنسان. وإذا ما أخذنا بنصيحة كثير من مراكز الأبحاث التي توصي بممارسة المشي يومياً لمدة 30 دقيقة، أو بما لا يقل عن عدد عشرة آلاف خطوة (ما يعادل ثمانية كيلومترات)، فسنكون حينها في مأزق، لأن توفير مسافة ملائمة بهذا الطول في كل حي سكني على الأقل سيكون أمراً مستحيلاً عطفاً على تركيبة البيئة العمرانية الراهنة، وربما سيضطر سكان هذا الحي لاستخدام السيارة والانتقال الى مواقع تتوفر بها هذه المسافة - إن وجدت- وهذا بلا شك لا يتلاءم إطلاقاً مع معايير تخطيط الحي السكني التي تكفل ممارسة حياة طبيعية في محيط المنزل وفق مسافات قياسية ملائمة. لا شك أن تدهور الجانب الإنساني في بعض المدن أدى الى العديد من المشاكل الصحية والاجتماعية والأمنية، فكثير من الناس باتوا يعانون من السمنة والأمراض المزمنة نتيجة قلة المشي وعدم توفر مسارات ملائمة للنشاط اليومي، كما أن النسيج الاجتماعي بين سكان الأحياء بات أقل ترابطاً لأنهم لا يتصادفون ولا يحظون بأماكن للقاء بعضهم البعض، بالإضافة الى تنامي حوادث السير كنتيجة حتمية لعدم وجود شبكة مشاة آمنة ومستقلة عن حركة السيارات، وغيرها من المشاكل التي عانت وستعاني منها المدن وسكانها في المستقبل. حتى نكون أكثر واقعية فكثير من المدن فرّطت في فراغاتها العمرانية في وقت سابق، ولم تعد تمتلك إدارتها سوى الشارع، أو مساحات ضئيلة قد لا تمكنها من إعادة «أنسنة» هذه الأماكن وبناء شبكة للمشاة بداخلها بالشكل المطلوب، لكونها أصبحت امام وضع راهن من الصعب تغييره أو التعامل معه، لكن المؤسف جداً أننا لا زلنا نشاهد أحياء «جديدة» في كثير من المدن تنشأ - حتى يومنا هذا - بنفس الأنماط التخطيطية السابقة التي تجاهلت الإنسان وسمحت بسيطرة السيارة ومنحت الربحية العقارية فرصة لالتهام ما تبقى من أراض فضاء «قابلة للحياة». شبكة المشاة ومرافقها في الأحياء السكنية هي «العمود الفقري» الذي يجب أن يُبنى عليه تكوين «جسد» الحي داخل «رحم» المدينة منذ اليوم الأول. هذا إذا ما أردنا أن نبني مدنا تحترم الإنسان.