فقدنا قبل أيام نجماً من نجوم الطب التي بزغت باكراً في سماء هذا الوطن، ورائداً من رواد الصحة العامة في المملكة. ذلكم هو معالي الدكتور حمد بن عبدالله الصقير -وكيل وزارة الصحة الأسبق، ثم رئيس جمعية الهلال الأحمر، ثم عضو مجلس الشورى-؛ حيث رحل إلى جوار ربه ليلة السبت 26/شوال، عن عمر يناهز الثامنة والثمانين عاماً، قضى معظمها طبيباً ممارساً وقيادياً صحياً في خدمة وطنه ومجتمعه. وكان خلالها يتميّز بالنأي بالنفس عن حب المظاهر أو السعي وراء المناصب؛ بل كانت المناصب الرفيعة هي التي تسعى إليه، لما عرف عنه من الأمانة والنزاهة والإخلاص. ما إن تخرج من دراسة الطب عام 1376ه ضمن الدفعة التي ابتعثت لدراسة الطب في مصر، حتى التحق ببرنامج الماجستير في تخصص الأمراض الصدرية، حيث تخرج عام 1379ه. عاد بعد ذلك لوطنه، فوجه مدير عام وزارة الصحة آنذاك معالي الدكتور حسن نصيف (وزير الصحة عام 1380ه) بتعيينه طبيباً إخصائياً في الأمراض الصدرية بمستشفي الملك سعود (الرياض المركزي)، فكان أول طبيب سعودي يُعيّن بالمستشفي في هذا التخصص.. لكنّ المملكة كانت على أبواب تطور صحي في مجال مكافحة الأمراض بالتعاون مع خبراء منظمة الصحة العالمية؛ فاختاره وزير الصحة عام 1383ه -وهو آنذاك الدكتور يوسف الهاجري- لإدارة برنامج مكافحة الأمراض الصدرية التي بدأت عملها في مبنى متواضع على أرض المستشفي. ومن بوادر أعمالها توفير سيارة فحص شعاعي جموعي لاكتشاف الإصابات بمرض الدرن الرئوي (السل)، وأمكن من خلالها فحص الآلاف من المستهدفين كل عام وعلاج المصابين منهم. وقامت كذلك بتوفير اللقاح المضاد للسل (BCG)، حيث بدئ في إعطائه للفئات المعرّضة للخطر عام 1386ه، ثم أصبح منذ عام 1391ه يعطى إلزاميّاً للمواليد الجدد في جميع المستشفيات. وكان الدكتور حمد إلى جانب عمله بالوزارة يمارس العمل مساءً في عيادته الخاصة، حيث كان ذلك مسموحاً به قبل أن يصدر في عام 1392ه نظام تفرّغ الأطباء الذي منع الجمع بين العمل الحكومي والعمل الخاص؛ فاختار أن يتفرغ للعمل في عيادته الخاصة، بعد أن رأى أن إدارة مكافحة الأمراض الصدرية قد استقامت على عودها، وأصبح في كافة مناطق المملكة مستوصفات للأمراض الصدرية أو مراكز للدرن، وتوافر لدى الوزارة كفاءات مهنية تواصل برنامج المكافحة.. على أنه بعد التشكيل الوزاري عام 1395ه الذي أعقب استشهاد الملك فيصل -رحمه الله- والذي عيّن بموجبه معالي الدكتور حسين الجزائري وزيراً للصحة، اختار ولاة الأمر الدكتور حمد الصقير وكيلاً لوزارة الصحة للشئون الصحية. وكان من ضمن مسؤوليات الدكتور حمد واهتماماته تطوير التعليم الصحي الفني الذي كان الإقبال عليه ضعيفاً.. فأناط الإشراف على إدارة المعاهد الصحية إلى الدكتور يوسف الحميدان -رحمه الله-. وخلال المدة بين عامي 1396ه و1400ه أنجزت خطوات جوهرية لتحسين مستوى المعاهد الصحية وزيادة الإقبال عليها أهمها: رفع مستوى القبول في المعاهد من الابتدائية إلى الإعدادية (المتوسطة) ابتداءً من عام 1396ه، والاتفاق مع الرئاسة العامة لتعليم البنات على نقل ارتباط مدارس تمريض البنات بالرئاسة إلى وزارة الصحة، وصدور موافقة المقام السامي عام1400ه على تعيين طلاب المعاهد الصحية خلال دراستهم على وظائف (دارس صحي) بالمرتبة الثانية (الراتب حوالي 1800 ريال)، ونتيجة لذلك زاد الإقبال على المعاهد الصحية، وافتتح المزيد منها في عدة مناطق (من تسعة معاهد للبنين والبنات عام 1396ه إلى 31 معهداً عام 1405ه). وكان رحمه الله معروفاً بحرصه على الدقة والأمانة في أداء العمل، وعندما كان يشكل اللجان التي تقع تحت إشرافه ويكلّف واحداً منا أو من زملائنا فإنه لا يعتمد محاضرها إلا بعد دراستها وتدقيقها؛ خاصة ما يتعلّق بترسية المنافسات. وفي منتصف عام 1403ه صدر قرار المقام السامي بتعيين معالي الدكتور حمد الصقير رئيساً لجمعية الهلال الأحمر. وقد توسعت مهمات الجمعية فشملت الإسهام في أعمال الإغاثة الخارجية، وترأس معاليه اللجنة التنفيذية للإغاثة التي أمر المقام السامي بتكوينها لمساعدة الدول الإفريقية المبتلاة بكارثة التصحّر والجفاف واستمر عمل اللجنة حوالي ستة أعوام. وفي الجمعية بذل ما استطاع من جهد في تطوير أنشطتها.. وكان مشاركاً نشطاً في لجنة الحج الصحية بالوزارة، وتابع اهتمامه السابق بالتعليم والتدريب فأنشأ في الجمعية إدارة للتدريب والتطوير. وفي أول عام 1418ه اختاره ولاة الأمر ليكون عضواً في مجلس الشورى، ليختم بذلك مسيرته المهنية. رحم الله أبا فيصل رحمة واسعة وأحلّه مع الأبرار والصالحين في نعيم الجنة.. لقد غادرنا مخلّفاً وراءه طيب الذكر والقدوة الحسنة في نزاهة القلب واليد واللسان. ** ** د. محمد المفرح