تقديم المترجم: هنا ترجمة لدراسة بقلم البروفيسور دانيال كريسيليس، أستاذ فخري لتاريخ الشرق الأوسط، قسم التاريخ، جامعة كاليفورنيا- لوس أنجلس (UCLA)؛ دكتوراه في التاريخ من جامعة برينستون. ونشرت الدراسة في شتاء 1966 في فصلية الشرق الأوسط (ذا ميدل إيست جورنال): وكانت مسيرة الإصلاح داخل الأزهر نفسه مملة وصعبة وجرت بدعم مجموعة صغيرة من العلماء «الإصلاحيين». وكانت المعركة تدور حول التنظيم الهيكلي بدلا من المسائل الموضوعية. وبالرغم من «مظاهر» تدل على تغيير جذري خلال 1908-1936، مثل إضافة مقررات حديثة إلى المنهج الدراسي، وإعادة هيكلة الأزهر ليصبح على شكل جامعة عصرية بما في ذلك وضع نظام لمنح الشهادات ولمراتب أعضاء هيئة التدريس، إلا أن الأزهر بحلول عام 1952 لم يتغير جوهره إلا قليلا وكان للأسف بعيداً كل البعد عن واقع مصر. (9) وكمؤشر على بطء وتيرة الإصلاح الفعلي رغم تبني الأزهر العلني للإصلاح، يمكن أن نشير إلى أن تدريس اللغة الإنكليزية، التي ظهرت لأول مرة في المناهج الدراسية في عام 1901 والتي أمر الملك بتدريسها مع الفرنسية والعبرية والفارسية والصينية والتركية، تعطل تدريسها أكثر من نصف قرن أي حتى عام 1958 عندما أعلن الشيخ محمود شلتوت، نائب رئيس جامعة الأزهر، أن تعليم اللغة الإنكليزية سيبدأ فوراً. (10) ولذلك يمكن أن نقول إن الضباط الشباب ورثوا أمة منقسمة للغاية بشأن الحداثة والتقليد، وأزهر لم يتم إصلاحه ، وطبقة دينية تخوض محاولة يائسة للدفاع عن موقفها المنهار في حين ترفض المشاركة في تحديث الحياة والثقافة المصرية. وكان الدين أحد أكثر القضايا الساخنة التي ينبغي للثورة مواجهتها على الفور. ولكن الخطر على الثورة لم يكن يأتي من الأزهر، بل من جماعة الإخوان المسلمين المنظمة والقوية والعدوانية. وفي مواجهة رغبة الإخوان بالسلطة، قام الضباط الأحرار بمبادرات واضحة لدعم الأزهر وأجلوا فرض فكرة إصلاح الأزهر مؤقتاً حتى يصبح موقفهم آمناً. وباستخدام الجنرال نجيب كرمز ومتحدث، أعطت زمرة الضباط الشباب تأكيدات علنية لعلماء الأزهر بأنهم سيتمسكون بالمبادئ الإسلامية القويمة. وبجانب القيام بزيارات رسمية متكررة لشيوخ الأزهر، «ابتكر» الضباط عادة جماعية وهي أداء صلاة الجمعة المهمة في الجامع الأزهر نفسه أو أحد المساجد الكبرى في القاهرة ليراهم كبار الشيوخ والجمهور ويشهدوا على تقواهم. ورغم أن الضباط الأحرار أظهروا منذ البداية استعدادهم للتعاون مع الإخوان لكسب دعمهم، إلا أنهم كرهوا المبادئ المتطرفة للجماعة. (11) كما أدى عدم استعدادهم لتقاسم السلطة إلى تعزيز علاقاتهم مع الأزهر الذي يعارضه الإخوان بشكل عام. (12). الفتك بالإخوان يسهل إصلاح الأزهر ويضع الدين تحت سيطرة الثورة وأدت طموحات عدائية متبادلة بين الضباط الأحرار، الذين أصبح اسمهم الآن «مجلس قيادة الثورة» ، وجماعة الإخوان في نهاية المطاف إلى محاولة لاغتيال عبد الناصر بينما كان يلقي خطابا في حشد جماهيري كبير في الإسكندرية في 26 أكتوبر 1954. وأدى الدمار الهائل الذي لحق بجماعة الإخوان وتمسك الأزهر بمبادئ الثورة لتخفيف الضغط السياسي المباشر الذي يتعرض له مجلس قيادة الثورة من الجهات الدينية، إلا أن استمرار مسألة التوجه الديني الأساسي لمصر بدون حسم كان خطيراً لدرجة كافية أن تسبب قلق مجلس قيادة الثورة. ولكن كان سحق الإخوان هو المفتاح الذي فتح الباب لإجراء إصلاح ديني عام، وقدم فرصة لوضع الدين تحت سيطرة الثورة. ورغم أن مجلس قيادة الثورة عمل بجد لوضع الأزهر والتسلسل الهرمي الديني تحت السيطرة الصارمة للحكومة، إلا أنه لم يفرض مسألة الإصلاح إلا بعد عامين عندما شعر أخيرا بأنه آمن ويمكنه معالجة مشكلة نظام محاكم الشريعة أي إلغاء وضعه المستقل عبر دمجه في نظام القضاء المدني. إلغاء المحاكم الشرعية وانتهت المرحلة الثانية من الإصلاحات بعدما تم دمج المحاكم المِلِيَّة المستقلة رسميا في النظام الوطني للمحاكم المدنية العلمانية. وفي جو من الاستياء ضد طبقة شيوخ الدين الذي خلقته الصحافة الحكومية بعدما ألقت الشرطة القبض على قاضيين شرعيين (عبد القادر الفيل وعبد الفتاح سيف) حَكَمَ كل منهما لصالح امرأة متقاضية مقابل علاقة جنسية معهما (*)، أعلنت الحكومة بسرعة في سبتمبر 1955 إلغاء جميع المحاكم الدينية اعتبارا من 1 يناير 1956. وبالرغم من حقيقة أن ذلك جرى في سياق محاولة لخلق نظام قانوني موحد للدولة المصرية الحديثة وأنه كان موجه في المقام الأول ضد نظام الشريعة المستقل، إلا أن الصحافة الغربية بشكل عام لم تفطن للآثار الهام ة لهذا العمل بالنسبة للمجتمع المسلم في مصر لأنها بالغت في تقدير أهمية القانون للأقلية القبطية في مصر. (13) ولم يدافع الشيوخ عن نظام الشريعة على أسس نظرية نظراً لكون العدالة تقليديا ضمن اختصاص السلطة السياسية. ولم يدافع أو يعترض الشيوخ علناً على الإطلاق. ونشرت جميع الصحف المصرية في 26 سبتمبر 1955، تهنئات من مختلف الشيوخ الرفيعين الذين أيدوا قرار الحكومة. وفي 28 سبتمبر، نشرت يومية الأهرام الكبرى خبراً مع صورة لشيخ الأزهر عبد الرحمن تاج وهو يشكر الرئيس عبد الناصر على اتخاذه هذه «الخطوة التحررية» بإلغاء المحاكم الشرعية. ولكن صدر عن الشيوخ البعيدين عن متناول مجلس قيادة الثورة موجة من الغضب العام على قرار الحكومة وصدرت احتجاجات من جميع أنحاء العالم الإسلامي وخاصة من سوريا حيث كان الإخوان يملكون منظمة قوية. ... ... ... هوامش المترجم: (*): هناك روايتان للحادثة أحدهما تؤكدها والأخرى تنفيها وتعدها مفبركة لتشويه سمعة القضاة الشرعيين لتبرير إنهاء الوضع المستقل للقضاء الشرعي ودمجه في القضاء المدني الوضعي. يؤكد الحادثة الملحق رقم (1): قضية الشيخين الفيل وسيف وفقاً لشهادة المستشار محمد سعيد العشماوي، ص-؟؟؟. ويشكك في الحادثة الملحق رقم (2): قضية الشيخين الفيل وسيف نقلاً عن كتاب «صناعة الكذب: دراسة في أشهر القصص الخبرية المفبركة في الصحافة المصرية»، ص-؟؟؟. (العيسى) يتبع ** ** ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء