طالما اسمعنا الكتّاب والصحافيون عندنا خصوصاً على أثر الحوادث الإرهابية وجرائم العنف كلاماً مؤداه أن الطبيعة المصرية تأبى التطرف. كرروا كلامهم هذا الى حد الإملال، وإلى حد أن اصبحت الجملة من قبيل الكليشيهات التي لا يوليها أحد اعتباراً، بل لا يصدقها أحد، خصوصاً بعد أن بتنا نلاحظ في كل من حولنا من أهل زماننا - بمن فيهم الكتاب والصحافيون أنفسهم - ما يسميه الجاحظ بضيق العطن، أي ضيق الصدر بما يخالف آراءنا من آراء، وبما ألفناه وقبلناه من أوضاع. لغة الحديث عندنا، ولغة المناقشة والجدل، صارتا تتسمان دائماً بالحدة والغضب، وبنبرة جنائزية نبوية، وغدا الفرد منا منذ انقلاب عام 1952 وكأنما أصبح واجباً عليه أن يستشعر الكراهية العظيمة نحو شيء ما، كراهية يغذيها ويرعاها ويتعهدها رعايته للنبات في الوعاء. وأدرك قادة الرأي العام والسياسيون ورجال الأحزاب أنهم متى أرادوا الناس أن يتبعوهم، فما عليهم إلا أن يخبروا الناس أنهم في هذه اللحظة بالذات تعساء أشقياء بؤساء، بسبب اشخاص آخرين لئام اشرار خبثاء، ولكي نحظى بالسعادة نحتاج الى شيء معين، شيء ليس في داخلنا ولا هو في حوزتنا، بل هو خارجنا، والسبب في أن هذا الشيء ليس معنا هو أن اشخاصاً آخرين سرقوه منا. أصبح من الصعب على الناس في مصر، وعلى علمائهم وفقهائهم وصحافييهم، بل حتى روائييهم، أن يناقشوا أي أمر في هدوء، من دون انفعال ومن دون اسباب وتكفير وتخوين، وأن يجادلوا بالتي هي أحسن، وأن يصبروا على الانصات الى وجهة نظر مخالفة، وأن يعرضوا الرأي عرضاً موضوعياً نقدياً، من دون ثورة وصراع وهياج، ومن دون اطلاق اللسان بما يخالف الادب، فالقاعدة عند الكافة هي القدح المسعور، والتشنج ازاء الفكرة الجديدة، والمبادرة الى تكفير القولة الجريئة، والاتهام بفساد العقيدة، والانتقال من تسفيه الفكر الى الطعن الشخصي، بأسلوب يفيض بذاءة وينضح بالحقد والكراهية، من دون مبرر ظاهر غير اختلاف الرأي. وهو أمر يتعذر فهمه الا في ضوء طبيعة تكويننا، وفساد أسلوب تربيتنا، وأفقنا المحدود، وحظ بلدنا المنكود. فهل ثمة مبرر إذاً لحديث عن سماحة شعبنا ورحابة صدره، ورفضه التعصب واتساع افقه؟ نعم ثمة مبرر يتلخص عندي في أن أكثر من صادفته في حياتي تمتعاً بالسمات المصرية الصرفة، وبالخلق المصري الصميم، وهو شخص لا تملك بعد الجلوس اليه، والحديث معه، أو القراءة له، الا أن تهتف صائحاً: هاكم النموذج الاصيل للشخصية المصرية الحقة. كان أكثر أهل الارض سماحة في طباعه، ورحابة في أفقه، وأعمقهم أدباً واحتراماً ازاء الرأي المخالف لرأيه، وأصبرهم على النقد، وأخلاهم من كل أثر من آثار الحفيظة والحقد. هو الشيخ مصطفى عبد الرازق. عرفتُه عن قرب في السنوات الثلاث الاخيرة من حياته حين كنت أستذكر دروسي مع ابنه ممدوح في حديقة منزله الرحبة في منشية البكري القاهرة أو في حجرة مكتبته، كان يأتي الينا احياناً فيحادثنا في الأدب أو الدين او الحياة، او يسألنا عما نذاكره من دروس أو نقرأ من كتب، أو يستعيد ذكريات صداقته الحميمة لأبي منذ ان كانا معاً في مدرسة القضاء الشرعي في مستهل العقد الثاني من القرن المنصرم، ومنذ ان أدرك كل منهما تشابه آراء الآخر مع آرائه في سبل الاصلاح الديني. ومما لا أزال أذكره الى اليوم حديثه الينا عن كيف أن عثمان بن طلحة سادن الكعبة قبل فتح مكة اغلق يوم الفتح باب البيت - وكان لا يزال على شركه - وصعد السطح. فطلب رسول الله المفتاح فقيل له إنه مع عثمان، فلما ارسل في طلبه أبى، وقال: لو علمتُ أنه رسول الله لما منعته المفتاح، فلوى عليٌّ بن ابي طالب يده وأخذ منه المفتاح عنوة وفتح الباب فدخل النبي البيت وصلى فيه ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ليجمع له بين السقاية والسدانة، فأنزل الله تعالى آية: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، وأمر رسول الله عليّاً أن يرد المفتاح الى عثمان بن طلحة ويعتذر إليه عما بدر منه. فلما فعل عليّ ذلك قال له عثمان: يا عليّ، أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟! فقال عليّ: لقد أنزل الله قرآناً فيك. وقرأ عليه الآية. فقال عثمان: أشهد أن محمداً رسول الله، وأسلم. وأردف الشيخ مصطفى قائلاً: أثمة مثل أوضح لأسلوب النبي في الدعوة ولسماحة دين الإسلام من هذه القصة؟ ألا تريان فيها شبهاً بخرافة لافونتين التي سمعتكم منذ لحظات تستذكرانها عن الريح والشمس اللتين تراهنتا أيتهما أقدر على أن تجرد رجلاً في أحد الحقول من عباءة يلبسها؟ فأما الريح فهبت تحاصره وتشدد من هجومها، فإذا الرجل يزيد من تشبثه بالعباءة وإحكام قبضته عليها، وأما الشمس فقد طلعت في هدوء وثقة الى كبد السماء، تبث حرارتها، حتى رأى الرجلُ من المناسب أن يخلع العباءة من تلقاء ذاته ويلقي بها جانباً. كان عنف علي بن ابي طالب كفيلاً بأن يزيد من عداء عثمان بن طلحة للإسلام إذ يُسلب عنوة حق بني عبد الدار في السدانة، لولا تدخل رسول الله، ورد الأمانة إليه، وأمره علياً أن يعتذر عن تصرفه العنيف معه. وكتب السيرة مملوءة بالمواقف التي حقق فيها الرسول بسماحته وحلمه، ولينه وسعة صدره، ما يحققه السيف والعنف، والغلظة والفظاظة. ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك. وقد يستغرب القارئ قولي إن لقاءاتي الشخصية به، وقراءاتي في ما بعد له، وأحاديث أبي إليّ عنه، لم تعمق من فكرتي عن الشيخ مصطفى قدر ما عمقته صداقتي لابنه السفير ممدوح عبدالرازق التي امتدت من عام 1944 الى يومنا هذا، أي على مدى تسعة وخمسين عاماً، واحاطتي الوثيقة بكل جوانب خلقه وطباعه، فالابن صورة ناطقة دقيقة للأب، والتفاحة لا تسقط ابداً بعيداً من الشجرة. سماحة الطبع والنفس والقلب نفسها، اتساع الافق نفسه، الوقار والتؤدة والاتزان نفسها امام صروف الدهر، والحزن نفسه ازاء ما يلمسانه فيمن حولهما من "ضيق العطن" وكثيراً ما يخامرني احساس غريب اذ أجلس الى ممدوح بأن عُمر صداقتنا تسعون عاماً لا تسعة وخمسين، وأن صداقة ابي للشيخ مصطفى وصداقتي لممدوح صداقة واحدة شاء لها القدر أن تمتد قرابة القرن. غير أن أثر الوراثة والجينات لا أراه كبيراً في ما يتعلق بالأخوين مصطفى وعلي عبد الرازق، كان احدهما يكمل الآخر من دون أن يكون صورة منه. كلاهما من مدرسة الشيخ محمد عبده، والاثنان أزهريان، تربيا ودرسا في بيئة أسرية وعلمية واحدة، وعانيا من جمود الازهر ومن بطش الحكام ما عانيا، يعشق كل منهما صحبة اخيه عشقاً، فإن زار احدهما الآخر في داره وقيل له انه يستحم، سحب كرسياً ودخل به الحمام ليجلس الى جوار الإبزن البانيو ثم ينخرطان في الحديث! ولم يجد علي عبد الرازق وصفاً لمصطفى في حفلة تأبينه في الجامعة المصرية في 27 آذار مارس 1947 أدق من عبارة "شقيق روحي"، أجهش بعد النطق بها بالبكاء فلم يكمل كلمته. غير أن علياً كان على وجه اليقين أكثر حدة في الطباع من أخيه، وأقل صبراً حيال المخالفين وحيال أناس زمنه. فما كان للجينات إذاً من التأثير في تكييف الطبيعة السمحة للشيخ مصطفى قدر ما كان لاعتبارين قويين آخرين: الأول: انتماؤه الى الريف والازهر والحياة المصرية الصحيحة، ثم اقامته لسنوات عدة في فرنسا، ودراسته في جامعتي السوربون وليون، وانخراطه في الحياة الفكرية الغربية انخراط الباحث المتعمق. وهي سنوات وصفها شقيقه علي في مقدمة كتاب "من اثار مصطفى عبدالرازق" بأنها قد غيرت فيه كثيراً، وكانت ذات اثر خطير في تاريخه. والثاني: تتلمذه لاثنين من عمالقة الفكر المصري في العصر الحديث، مختلفين في العقلية والمنحى اشد الاختلاف، هما الشيخ محمد عبده وأحمد لطفي السيد، مما حدا بالشيخ مصطفى، وهو المعجب بفكر الرجلين وشخصيتهما، والمتأثر بآرائهما، والمقر بحكمتهما واخلاصهما، الى أن يتمثّل الاتجاهين في شخصه هو، ويخرج بعد ذلك على الناس باتجاه جديد. وهو أمر أراه المسؤول الاول عما تميز به الرجل من رحابة الصدر، إذ درج على احترام مدرستين فكريتين متباينتين في آن واحد، ونشأ على توقير عالمين جليلين كل منهما عميق الفكر ومخلص جاد، غير أنهما يكادان أن يكونا على طرفي نقيض. ثمة مع ذلك ما اجتمع عليه الرجلان وأورثاه تلميذهما مصطفى. فكل من محمد عبده ولطفي السيد يؤمن بالتدرج في الاصلاح لا بالطفرة التي اخذ بها جمال الدين "الافغاني" واحمد عرابي. وقد كان فشل الثورة العرابية وفشل الافغاني في نهاية المطاف في تحقيق مآربه، هما المسؤولان عن انصراف اذهان المصلحين عندنا في مطلع القرن العشرين عن استخدام العنف واللجوء الى الثورة من أجل اصلاح الامور. كذلك اتفقا على مفهوم الامة، وتفضيل اعطاء الاولوية للامة المصرية على اعطائها للامة العربية او الامة الإسلامية. كان "الافغاني" - شأنه شأن ليون تروتسكي في ما بعد - يؤمن بالثورة الدائمة وفي كل مكان، ويدعو الى محاولة ايقاظ الاقطار الإسلامية كافة ودفعة واحدة حتى يضمن تضافرها وتضامنها نجاح ثورتها ضد المستعمرين واشباح المستعمرين من الحكام. أما محمد عبده ولطفي السيد فكانا - كجوزيف ستالين في ما بعد - يريان التركيز على البدء بإصلاح بلدهما مصر حتى تصبح، متى نجح المسعى والاصلاح، نقطة ارتكاز للعمل الاوسع نطاقاً، ومثالاً تحتذيه بعد ذلك اقطار العرب والمسلمين الأخرى، وفي رأي الاثنين ان أي تغيير مرجو في احوال الامة لن يتأتى إلا بإصلاح نظم التعليم، والاهتمام بتربية ابناء مصر تربية سليمة تؤهلهم بمرور الزمن لنيل استقلالهم وتحقيق الحياة الديموقراطية الحقة. غير أن الطرق تفترق بعد ذلك بهذين المفكرين المختلفين في المزاج والميول وفي البيئة الاجتماعية والطبقية والخلفية الثقافية والدينية وفي الزي والمنصب. فالشيخ محمد عبده - على سبيل المثال - يرى البدء بإصلاح الازهر متى شئنا اصلاح الامة، بالنظر الى أن الازهر هو المعهد الذي يُخرج علماء الدين من مختلف الطبقات الاجتماعية، وكذا الدعاة الذين ينبثّون في كل انحاء البلاد بعد تخرجهم، ريفها وحضرها، آخذين بيد ابناء امتنا في هوادة ورفق لمساعدتهم على تقبل الحداثة وثمار العلم والمدنية. أما لطفي السيد فيرى في قرارة نفسه ان الازهر بجموده ورجعية فكر رجاله الذين انبروا لمحاربة الشيخ محمد عبده نفسه هو كالصخرة في مجرى النهر، يعوق انسياب الاصلاح، وان حاله لن ينصلح الا بانصلاح الامة. فمن الواجب اذاً ان نبدأ بالأمة في مجموعها، ثم يضطر الازهر اضطراراً بعد ذلك الى مجاراتها. كان تأثر مصطفى عبدالرازق بالشيخ محمد عبده سابقاً على تأثره بلطفي السيد، فمدرسة الاول كانت في شباب الرجل اسبق في الظهور وأعلى صدى واكثر انصاراً، وكانت تربية مصطفى الدينية ومزاجه الهادئ المحافظ كفيلين بأن يجعلاه اشد تجاوباً مع آراء الاستاذ الإمام. وهو ما نجم عنه في النهاية ان اصبح مصطفى أبرز تلاميذه، غير ان التلميذ الحق هو دائماً من تجاوز فكره فكر استاذه لا من توقف عنده. وقد ساعد لطفي السيد الشيخ مصطفى على تجاوز فكر الامام من دون ان ينال منه. وانه لمما يبعث على الطرب والنشوة أن نقرأ عن تطور علاقة مصطفى بلطفي السيد في المجلدات العديدة من يوميات الاول التي لم تنشر بعد، والتي لا تزال في حوزة ابنه ممدوح. فها هو الشيخ مصطفى يزور لطفي السيد في 17 آذار 1909 بعد أربع سنوات من وفاة محمد عبده، فيكون حديثهما عن الموسيقى والغناء، وأثرهما في ترقيق الشعور، وحاجة الأمة الى شيء من الملاهي يبعث نشاط العاملين ويجدد ما يفني العمل من طاقتهم. واعجبني قول لطفي: اننا لا نجد ما يفرّج عنا كُربة هذه الحياة المملوءة بالآلام. فلا مغاني، ولا موسيقى، ولا ملاعب - أي مسارح - وكل ما بين أيدينا من ذلك فاسد لا يهيج شعوراً، ولا يبعث سروراً. ثم يكتب بتاريخ 19 نيسان ابريل بعد شهر من ذلك اللقاء، يقول: مضت مدة لم أزر فيها لطفي، وله عندي مكانة تحبب اليّ زيارته، فذهبت اليه اليوم وتحدثنا عن حرية الأمة، أهي حق طبيعي أم حق اجتماعي؟ للّه لطفي! ما اصدق لهجته، وابين حجته، واعذب حديثه! مجالسه مجالس العلماء، وكلماته فيها كلمات الحكماء". وفي 2 أيار مايو، اي بعد نصف شهر، "قال لي لطفي: انني احب لك ان تتفرغ للعلم، وتجعل حياتك وقفاً على خدمته. ولا بد لك من السفر الى أوروبا، والاقامة هناك زمناً يمكنك من التعرف إلى ما عند القوم من علم نافع فإذا عدت ان شاء الله كنت لأمتك خير مصلح، وما اشد حاجة هذه الامة الى العلماء المصلحين. سأكون معك عند سفرك الى اوروبا فأهيئ لك الاسباب، واعرفك بأناس هناك تنفعك معرفتهم"، فما مضى شهر ونصف على هذا الحديث حتى كان الشيخ مصطفى في قطار يقله الى بورسعيد 10 حزيران / يونيو 1909، ومنها بالباخرة الى مارسيليا، فالقطار الى باريس حيث وجد لطفي السيد في انتظاره في المحطة، فاصطحبه الى فندق حجز لصديقه حجرة فيه، ثم تناولا العشاء وخرجا معاً يطوفان بشوارع المدينة. ولم يترك لطفي السيد صديقه ويقفل عائداً الى مصر الا بعد ان اطمأن تماماً الى انه وضعه على اول الطريق الذي يفتح امامه ابواب المعارف الحديثة، ليس فقط بين جدران جامعة السوربون، بل خارجها ايضاً. كذا كان رجال مصر في الماضي، فما الذي عساه ان يكون قد حدث للمصريين؟! أقام الشيخ مصطفى بفرنسا اكثر من خمس سنوات ونصف 1909 - 1914 فما مضت تسعة اشهر على بدء تلك الاقامة حتى نراه يدون في يومياته في 11 آذار 1910 "لولا ان الشيخ محمد عبده صاح صيحته التي زلزلت دعائم الجمود لما كان لمثلي أن يتخطى الحجر الديني ليصل الى باريس. اجل ان تعاليم الاستاذ الامام وعشرته قد افادتني وطهرت معظم عقائدي الدينية، ولكن بقي اثر للجمود يحدد دائرة عقلي بحدود وهمية. وهذا التحديد الصناعي الخالي من المعنى هو الذي اشعر أن عقلي يجد من حين الى حين اقداماً على تخطيه". واذ نقلب صفحات يومياته صفحة تلو صفحة نجده يقلب النظر في تأثير كل من محمد عبده ولطفي السيد في نفسه وفكره، محاولات جهده ان ينفذ الى جوهر ذاته هو بعيداً عن خضم تأثير الرجلين، وبعيداً من تأثير بيئته الريفية والازهرية وتأثير بيئته الاوروبية الجديدة معاً. اقرأ له في يومياته بتاريخ 8 حزيران "كنت اتكلم الليلة مع ع.ش. عن الشيخ محمد عبده وقيمته العلمية وأثره الإصلاحي. فقال: اننا نبالغ كل المبالغة في تقدير من يمتاز بيننا بشيء من الذكاء أو الاطلاع، ومن ذلك نعتنا الشيخ عبده بالفيلسوف والمصلح الديني، وما هو في الحقيقة الا عالم اديب لم يميزه عن غيره الا سبقه لأقرانه، لا امتيازه في الواقع بما هو من خصائص المصلح او الحكيم. وقد بذلت جهدي في ان ابين له ان الاستاذ جاء بنهضة دينية علمية ان لم تكن جديدة في نظر الامم الراقية فقد كانت عندنا جديدة وكانت ذات اثر. واكثر شباب نهضتنا الحديثة لا يكادون يعترفون للشيخ عبده بمزية لأن عمله العلمي كان في الازهر واصلاحه الديني غرس بين ربوعه. ولهذا كان خفياً على فتياننا ان يعرفوا القيمة الحقيقية لمبادئ الشيخ على رغم تمتعهم بثرائها، يريدون الا يفرزوا منا فيلسوفاً حتى يكون كحكماء هذه الامم اصحاب المذاهب الجديدة المبنية على علم غزير، وعقل قدير، وفاتهم اننا امة متواضعة في علمها ومدنيتها فيكون حكماؤنا على نسبة من مركزنا، لأنهم خرجوا من اعصاب الامة والهموا ما سدد خطاها في سيرها الطبيعي، ففي العالم اذاً صنفان من الحكماء: مصلحو العالم ومصلحو الأمم، الاولون هم الفلاسفة على الاطلاق، والآخرون هم الفلاسفة الى حد". أما عن علاقته بلطفي السيد الذي كان يتابع باهتمام من مصر اخبار صديقه طوال مدة اقامته في فرنسا، فإننا نقرأ في يوميات الشيخ مصطفى في آب اغسطس 1913 "كنت اتحدث مع أ. ز. عن "الجريدة" - صحيفة لطفي السيد - وما ينبغي لترقيتها وتقوية مركزها، فقال لي: ان لطفي يريدك للجريدة ويعلق عليك آمالاً كباراً، فقلت له: انني اريد ان اشتغل بحركة علمية، واول قواعدها فصل العلم عن السياسة ليكون القول في العلم للعلماء بعيدا من المشاحنات الحزبية والمداهنات التي قد تبررها السياسة ولا يبررها العلم". ثم حدث بعد هذا الحديث بشهرين ان عاد مصطفى الى مصر في زيارة قصيرة، فجاءه لطفي السيد في صباح 14 تشرين الأول اكتوبر 1913 يرجوه ان يبقى في مصر ليشتغل معه في "الجريدة" وان يتم رسالته بمصر ثم يعود الى فرنسا ليناقشها. غير ان تلميذه ابى، قائلا انه اميل الى تولي حركة علمية مستقلة، وان الاقرب الى ذلك هو الاشتغال في الازهر. وحاول لطفي ان يثنيه عن هذا العزم، مؤكداً له ان الازهر ليس بالوسط المناسب لمساعيه العلمية، وان الصحافة هي الوسط الصالح للدعوة. فأصر الشيخ على الرفض. ظلت تشغل باله دائماً، في الغربة والوطن، مشكلة الصراع بين النظم الوافدة والمستحدثة، وبين التقاليد الراسخة، "وأمر الانقسام الاخلاقي الواضح في فتياننا من أثر التربية المدرسية والتربية الازهرية". وقد نشأت تلك المشكلة وذلك الانقسام بتبني محمد علي لنظامين متباينين للتعليم: نظام تقليدي قديم ترك على حاله من دون اصلاح، يبدأ بالكُتّاب في القرية وينتهي بالازهر في القاهرة، ونظام جديد له مدارسه التي تؤهل خريجيها لتولي المناصب المرموقة في الدولة، والتي انشئت ووضعت مناهجها على غرار معاهد العلم الاوروبية، فكانت لا تولي الدين وعلومه العناية الواجبة. وهنا بدأت تظهر في مصر تلك الهوة الهائلة بين التعليم الديني والتعليم المدني. صارت الأمة المصرية اذاً امتين، لا حلقة وصل تصل بينهما عبر الفجوة المتزايدة الاتساع. وكتب الشيخ مصطفى في أيار 1914 عن تلك الفجوة يقول: "سمعت من ع. بك س. انه كان مع جماعة من اصدقائه في باريس فأثنى على شيخ طالب هناك، عندئذ صاح الباقون من البكوات: انما هو ازهري، وسيبقى شيخاً ما عاش، ولو قضى حياته كلها في أوروبا". "وكنت مرة في دار الشيخ ه. فقرّظت علم استاذنا ر. أفندي فقال الحاضرون من الشيوخ: هل يستطيع استاذنا العالم ان يستخرج أوجه البسملة من ابيات الشيخ الاجهوري: ان ينصب الرحمن او يرتفعا. قلت انه غير مؤرخ وجغرافي في مصر. فضحك زعيم القوم ملء أنفه وقال: علم لا ينفع، وجهل لا يضر! هكذا يحكم المدرسيون اذاً على الازهريين، وينظر الشيوخ الى ابناء المدارس!". اضطر الشيخ للعودة من فرنسا في آخر عام 1914 لسببين: الاول اصابته بداء السل، والثاني نشوب الحرب العالمية الاولى ورغبة المصريين في العودة سريعاً الى بلدهم قبل ان تنقطع بهم السبل، وقد عين عام 1915 موظفاً في المجلس الاعلى للازهر، فمفتشاً بإدارة المحاكم الشرعية، فلم يهنأ قلبه بهذا المنصب او ذاك، ولا هو وجد ميدانه الحقيقي الا حين اختير استاذاً مساعداً للفلسفة في كلية الآداب في جامعة فؤاد عام 1927. وكان لهذا الشيخ الازهري المعمم اسلوب خاص في التعليم الجامعي لا يكاد ينهجه غيره من الاساتذة في مصر، فالتعليم عنده لم يكن مجرد القاء الدرس على الطلاب وتلقينهم اياه، ولكنه عبارة عن صلة عقلية ينشئها بينه وبين طلابه. فهو يشركهم معه في بحث المواضيع واستخراجها من مظانها، وفي مناقشته المسائل وفهم النصوص وتحرير الآراء. وهو في كل ذلك يراجعهم ويراجعونه، ويعينهم ويعينونه. كلهم لكلهم اساتذة، وكلهم لكلهم طلاب! وهكذا يصير درسه عبارة عن مجتمع تتقارب فيه الارواح، وتتآلف النفوس، وتنبت في جنباته عواطف الصدق والاخلاص. وبهذا المنهج الجامعي كان يُربى طلبة يحبهم ويحبونه، وينشأون على ما عودهم اياه من سُنن العلماء وآدابهم، ومن المجد في طلب العلم لذاته والمثابرة عليه. وكان في طريقته هذه من غير شك لمحة مما شاهده في جامعتي باريس وليون، وما عرفه عن بعض الجامعات الاوروبية الاخرى. وأما موقفه من الفلسفة ذاتها فموقف ينفرد به او يكاد، وهو ما نستشفه من مقال نقدي له سطّره عن كتاب "الواجب" الذي الفه بالفرنسية جيل سيمون ونقله الى العربية عام 1914 الدكتور طه حسين والاستاذ محمد رمضان بغية ان يزيلا ما علق بأوهام المسلمين من سوء الظن بالفلسفة، وأن يجعلا ذلك الفن صناعة عملية تشترك الطبقات كلها في تناول مباحثها، والانتفاع بها في مضمار الحياة. كتب يقول: "لا يسعنا الا ان نشكر الاستاذين على نيتهما الشريفة، غير اني لست من رأيهما في القول بأن حق الفلسفة ان تتخذ نصيراً للدين، ووسيلة الى تأييده، فإن ذلك ضار بالدين والفلسفة جميعاً. فأما ضرره بالدين فلأنه يعرض عقائده، وهي عواطف قدسية تتأثر بها النفس، لمناقشات العقل ومتناقضاته. ومتى ما صارت عقائد الدين فلسفة تكتسب بالأدلة، وخرجت عن حكم المشاعر القلبية الى حكم النظريات العقلية، وحدث في خيار المؤمنين من يقول: كلٌّ يعزّز رأيه / يا ليت شعري ما الصحيح؟ وأما ضرره بالفلسفة فلأنه يحدد لمقدماتها نتائج تقليدية، ويجعل بحثها عن الحقائق موجهاً الى غاية هي تأييد الدين، فتأخذ هي ايضاً شكلا ًدينياً مقدساً لا يتناسب مع حرية البحث والنقد. ان اقصى أماني الدين والفلسفة ان يتعاونا على اسعاد الانسان، هذا من طريق القلب والعواطف، وهذا من طريق العلم والنظر، لا ان يتلاقيا في ميدان واحد وجهاً لوجه. انني احب الحرية حباً يجعلني حريصاً على أن تكون للعقول حريتها في الفهم، وللقلوب حريتها في الايمان، وما كانت الفلسفة لتعادي الدين، ولكنها ايضاً لا تخدمه". رُقي الشيخ الى درجة استاذ للفلسفة عام 1935، ثم عُين عام 1938 وزيرا للاوقاف، وهو منصب شغله سبع مرات قبل تعيينه في 27 كانون الاول ديسمبر 1945 شيخاً للأزهر، فحسب أن في وسعه أن يرسم مناهج الاصلاح الذي كان يرتجيه للأزهر والأزهريين، وأن ينال هنا من النجاح ما نال في الجامعة المصرية. ولكن هيهات! فقد أقيمت في سبيل تعيينه شيخاً للأزهر عقبات مستندة في ظاهر أمرها الى قانون الجامع الازهر، لكن الأزهريين لم يرتضوا له ذلك المنصب، الذي تتعلق به ارواحهم وتنتهي اليه آمالهم وأبصارهم، وكلهم وَرِم أنفه أن يخرج هذا الامر من يديه، فحاولوا ان يشعلوها فتنة طاغية، وأن ينصبوا بدسائسهم الشباك له. كان قانون الجامع الازهر يقضي بأن يختار شيخه من هيئة كبار العلماء، ولا يعين في هيئة كبار العلماء إلا من تولى وظائف معينة في القضاء الشرعي أو التدريس مدة معينة في بعض المعاهد الدينية. ولم يكن هذا الشرط متحققاً في الشيخ مصطفى. وقد كانت المدة التي تولى فيها التدريس في الجامعة المصرية، وهي احد عشر عاماً، جديرة بأن تهيئه ليتولى مشيخة الأزهر، لولا ان قانون الازهر نص صراحة على اشتراط ان يكون التدريس في المعاهد الدينية خاصة. ومن أجل ذلك رأى أولياء الأمر اصدار تشريع جديد يقضي بأن يكون التدريس في الجامعة مساوياً للتدريس في المعاهد الدينية في الترشح لمشيخة الجامع الازهر، وهكذا انحل الاشكال القانوني الذي كان السبب الظاهر للمعارضة بصدور هذا القانون الجديد بموافقة البرلمان. وفي يوم 15 شباط فبراير 1947 - أي بعد عام واحد، وخمسين يوماً من توليه مشيخة الازهر - توجه الشيخ مصطفى الى الأزهر ليترأس جلسة لمجلسه الأعلى الى ما قبل العصر، ثم عاد الى منزله فتغدى ونام القيلولة، ثم استيقظ فتوضأ وصلى. واخذ يلبس ثيابه فشعر بإعياء وهبوط، فأوى الى فراشه. واستدعي الطبيب لإسعافه فوجد قضاء الله قد نفذ. أجهش والدي بالبكاء حين قرأ الخبر في جريدة الصباح، وهتف صائحاً في غيظ شديد: قتله الأزهريون قاتلهم الله! فهل مر بذاكرة الشيخ في لحظاته الاخيرة تحذير لطفي السيد له يوم 14 تشرين الأول 1913 من الاشتغال في الازهر؟ من يدري؟ * كاتب مصري.