الشعر والنقد قرينان متلازمان، وبدأت علاقتهما منذ تفجّر الشعر على الألسنة، وإذا كان الشعر بدأ ناضجاً أو قريباً من النضج فإن النقد احتاج بعده إلى قرون لينضج ويكتمل ولعله لم يكتمل بعد! وفي العصور المتقدمة جداً كان الشعراء هم النقاد. وكذلك الحال في الشعر النبطي فالنقاد كانوا -ولا يزال بعضهم- هم الشعراء، بل لا يزال كثير منهم يرون أن الشاعر هو الأقدر على النقد، فهو في رأيهم الناقد الأول، بل إن بعض العوام منهم يستخفون بكل رأي فني في الشعر يصدر من غير شاعر! فهل الشاعر حقاً هو الأقدر على النقد الصحيح؟ وهل هو الناقد الأول؟ نعم، هو الناقد الأول، و(الأول) هنا لا تعني الأفضل، بل تعني أنه أول من يطلع على عيوب قصيدته ويصلحها، والعبارة كما يلاحظ تحصر النقد في تصيّد الأغلاط. الشاعرية لا تصنع ناقداً كما أن النقد لا يصنع شاعراً، لذا فإن ادّعاء أن الشاعر هو الأقدر على النقد اعتماداً على شاعريته فقط، غير صحيح، والسبب يسير وهو أن نقده (نقد انطباعي) شكلي، وغالباً ما يكون شفهياً جزئياً سطحياً، لا يكاد يخرج عن نقد اللفظ والمعنى والصورة والأسلوب وربما تركّز حول الوزن والقافية، فهو نقد توجيهي عابر، لا يكاد يتجاوز الدور الذي كان يؤديه النابغة في سوق عكاظ في الجاهلية. إذن لا يمكن أن يقال إن الشاعر هو الأقدر دائماً على النقد، لأن النقد ليس موهبة كالشعر، بل علم قائم بذاته يُتعلّم ويُكتسب، تصقله الخبرة والاطلاع، ويوجهه الذوق والعقل والمعرفة والثقافة والخبرة. ولا يمكن أن يقال إن الشاعر هو الأقدر على النقد ما لم يكن مطلعاً على تاريخ النقد الأدبي ومدارسه ومناهجه وفلسفته وأدواته ومعاييره ومقاييسه النظرية والتطبيقية. إن نقد الشاعر عادة ليس سوى نقد اختزالي يقدم رأياً أو (تقريراً موجزاً) حول مظاهر القوة والضعف في القصيدة، لكنه لا يقدم قراءة نقدية أو مقاربة ثقافية حولها تفيد الشاعر وتفتح للقارئ آفاقاً متعدّدة من المتعة والفائدة، والشاعر الناقد المكتفي بخبراته الشعرية لا يعنى بغير القضايا الفنية في الشعر أما القضايا التاريخية والاجتماعية والنفسية والفكرية وغيرها فلا تعنيه. وبما أن النقد الانطباعي أقرب إلى الشفوية منه إلى التدوين فإنه وإن يكن يدور في فلك (المنهج الفني) إلا أنه أيضاً يتناوشه تناوشاً ظاهرياً ولا يدخل في عمقه، والشاعر الناقد المعتمد في نقده على خبرته في النظم لا يحيط به ولا يكاد، فهو لا يهتم ب(التحليل) ولا ب(الإيحاء والظلال) للمفردات والتراكيب والصور، وهو في الغالب لا يعرف من الصور إلا أثرها في نفسه فقط وربما لا يستطيع أن يعبّر عن هذا الأثر، كما أنه لا يهتم من (موسيقى القصيدة) سوى بما يخالف قواعد الوزن والقافية. إضافة إلى أنه لا يعنى بقضايا التوثيق والمصطلحات وتاريخ الأفكار وتطور مدلولات المصطلحات واختلاف اللهجات والسرقات الشعرية (التناص) والرمزية والترميز والتعريض والتشفير.. وغيرها، ولا يعنيه إجراء المقارنات والموازنات داخل المجال النبطي أو مع المشابه من الفصيح، والمماثل في الآداب العالمية والفكر الإنساني الممتد عبر التاريخ. إن نقد الشعراء (الانطباعي) يكتفي بتوجيه الشاعر إلى الارتقاء بالتقنيات الشكلية للقصيدة لكنه لا يدرس الظواهر والقضايا التي تحتويها، بل هو في الأغلب الأعم يرى أن هذا لا يعنيه، وربما صنفه على أنه ترف فلسفي، وتكلّف وادّعاء ضخم لا علاقة له بالشعر ولا بالنقد، مع أن كثيراً من الشعراء الذين قدّموا دراسات نقدية في العقود الماضية سواء في الصحف أو في الكتب كانوا يعتمدون في تلك الدراسات على التهويل في محاولة التثاقف بصياغة العبارات بلغة يعتقدون أنها شاعرية حداثية مؤثّرة بغموضها وغرابتها وبمصطلحاتها الاستعراضية لا تخدم الموضوع ولا تقدم سوى السراب والتميّع في الرطانة. فاصلة: للشاعر علي أبو ماجد - رحمه الله: فلو تحكم الأام بالعدل بيننا نجحنا ومن يمناه طلقه يمدها ولا كان كاتفنا زمان فضايله نفسٍ يهيّدها ونفسٍ يهدها ولا خضت هالموضوع من شان عيشتي الأرزاق غرسٍ والتسبب يجدّها ما دام بي عرقٍ على الصح يحترك فالعافيه ترفى خلل من يكدها فلا شك أبا وصّيك يا ملفت النظر إلى خفت من دعوى تجاسر وبدّها ولا شفت من ربعك ملل لا ترومهم اقلط على عَقْدة غلاهم وهِدَّها ** ** [email protected]