ارتبطت جدة بجوده وجودته وإجادته.. فكان «الفارس» الذي قدَّم للعروس «مهر» الكفاءة و»سهر» المهمة.. والفنان «الأصيل» الذي طرَّز فستانها بفصوص «الجمال» وعزَّز كيانها بنصوص «الامتثال».. فكان ابنها «البار» وأمينها «السار» الذي كتب «مقامات» الحجاز على شواطئها وعلّق «إضاءات» الاعتزاز على رواشينها.. ليسلّم «عروس البحر الأحمر» للتاريخ مختالة بإمضاءات «الأولوية» مغرورة بإضاءات «المثالية» إنه أول أمين لمحافظة جدة الدكتور محمد سعيد فارسي -رحمه الله- أحد أبرز الأسماء الوطنية وأشهر صنَّاع التنمية وأول مؤسسي تجميل المدن. بوجه مكاوي أصيل وسحنة حجازية بملامح عفوية مألوفة وعينين واسعتين تشعان بالإنصات وتنبعان بالود مع محيّا أنيق تكسوه «بشوت» المنصب وتكتسيه «معالم «الهيبة»وصوت جهوري منمّق تتقاطر منه مفردات «المسؤولية» وعبارات «الهندسة» واعتبارات «التخطيط» قضى فارسي عقوداً وهو يؤسس النماء على طريقته ويكمل المشهد التنموي وفق رؤيته فرسم خارطة «جدة» في ثلاث لوحات الأولى للثبات والثانية للتحول والأخيرة للمستقبل.. ليظل اسمه شريكاً للأمس ووسمه حراكاً للغد. في مكةالمكرمة ولد الفارسي وانخطف باكراً إلى سكنات «الروحانية» وأركان «السكينة» في مشاهد القائمين والعاكفين والركع السجود فتشكّلت في ذهنه الصغير «تباشير» الجد وبشائر المجد فبحث في يقين والده وحنين والدته عن استنطاق لأشواق الطفولة وكبر باحثاً عن «الوجاهة» في وجوه المكيين مستبحثاً عن «السماحة» في جلسات حكماء «أم القرى» و»الحماسة» في نهارات الضيافة المكية.. ركض فارسي بين أقرانه مشدوداً إلى «خشوع» الشعور في حضرة «المشاعر» ملتحفاً رداء الإرث العائلي الذي جعله في سباق مستديم بين الدافعية والموضوعية.. متأبطاً حقيبته المليئة بأذكار الصباح والمساء وأفكار الطفولة الأولى.. تشرَّبت روحه من «طهر» زمزم وتعتقت أنفاسه بأناشيد «المواسم». فظل مراقباً لمغانم «السادة» في أحياء جرول وكدي والحجون وغنائم «العادة» في دكاكين «السبح والسجاد» فكتب «العمق الأول للبوح» نحو أفق الطموح مرتدياً «جلباب» المتوجين بالتفوّق في دراسته وكياسته. سيرة دراسية عاطرة بالامتياز سجّلها فارسي، حيث درس الابتدائية بمدرسة الرحمانية، ثم أكمل تعليمه في مدرسة تحضير البعثات، وأسرَّ إلى أهله «حديثاً» مفضياً إليهم رغبته ومحبته للتخطيط والعمارة والتصميم والإنشاء موجهاً «قبلته» إلى «مصر» معقل العلم المعرفي، حيث وجد ضالته ونال بكالوريوس الهندسة من جامعة الإسكندرية عام 1963م ولأنه مسكون بالدافعية واصل التعليم وحصل على ماجستير العمارة والتخطيط بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف الأولى من الجامعة نفسها عام 1982م، ثم الدكتوراه من جامعة الإسكندرية عام 1987م. عمل فارسي مديراً لمكتب تخطيط المدن في الرياض في عام 1383ه ومسؤولاً عن تخطيط مكةالمكرمة والمنطقة الجنوبية ورئيساً لبلدية جدة ثم أمين مدينة جدة في 1392ه حتى عام 1407ه. انتقل إلى جدة وظل حانياً إلى مكة متفانياً في رد «جميل» النشأة الأولى.. عشق الإسكندرية واستلهم روح الشباب وذكريات «الجامعة» ناسجاً خيوطها من أحياء بحري والأنفوشي والسرايا محتفظاً بسلطنة «الأماكن» وسلطان «الذاكرة» حاملاً مخزون «الفن» من ثنايا الشكل ومثاني «التشكيل». امتلك فارسي «ملكة» التجميل باكراً فخلط «الفن بالهندسة» وربط «الفنون بالمتون» وواءم بين «اخضرار الطبيعة وإصرار البحر» ومزج النفس بالحس.. وجمع الرسم بالمعنى فجاد ببذخ على معشوقته «جدة» فحوّلها إلى متحف مفتوح ومعرض متاح، حيث أتحف جوانبها بمجسمات «النحت» العالمية لفنانين كبار واضعاً «اللبنة» الأولى لصرح «التجميل» الذي حوَّل وجه «العروس» إلى رسم للإبداع ومرسم للاستمتاع جاذباً بوصلة «الذائقة» العالمية إلى ميادين جدة والتي تحول فيها «المجسم» إلى مغنى للمكان ومعنى للزمان. إنسان جدة وبرهان المرحلة ورهان المنتج شهود على «الحالة « الرمزية للاستشهاد فيما تظل الشواهد البشرية شهادات للحاضر ومشاهدات للقادم وسط قطار «فارسي» الذي سيظل سائراً بوقود الوجود «المعرفي» والتواجد المستذكر. اتجاهات «الوطن» وموجهات «الذكر» الطيِّب ونفع الآخرين والعلم الجائل بين الباحثين والأرض الناطقة بالحضارة «عزاء» دائم يغني عن البحث في سيرة فارسي المملوءة بالمعالي. رحل فارسي -رحمه الله- الأسبوع الماضي بعد عمر قضاه في خدمة الدين والوطن وعطَّر به «مسارات» السداد.