أحزننا رحيل الفنانة المبدعة منيرة الموصلي.. في قلوبنا ألم، وفي نفوسنا عتب عليها، فقد أخفت عنا أوجاعها المبرحة. بالتأكيد ليس مجافاة منها، المرجح أنها لا تريد أن نراها واهنة، وقد اعتدناها مفعمة نشاطاً، تتدفق حيوية. تصرفها هذا حرمنا من أن نقوم بالواجب كوننا أصدقاء مقربين. أن نقف معها في مرضها، كما وقفت معنا في عافيتها. حرمتنا أن نكون أوفياء لها، كما كانت وفية لنا.. جميعنا مدانون لها بالكثير. إن حدث تقصير فلا لوم عليها، ولا تثريب. نحن الأولى باللوم لأننا لم نكن على الدرجة المرجوة من التواصل، الذي كانت تحرص عليه. في زمن أصبح فيه التواصل أمراً سهلا. نشعر الآن بفداحة فقدها.. عزاؤنا أنها تركت لنا ما يبقيها حية حاضرة بيننا. تركت سيرة حافلة بما هو زاخر بالنبل. وتركت آثاراً فنية ذات ريادية في مجال إبداعها، فهي من القلائل الذين تركوا بصماتهم الواضحة على الحركة التشكيلية المحلية، بل كانت في مقدمة طليعة المجددين، متجاوزة عصرها، حتى رحيلها وهي مثابرة على البحث عن كل ما هو جديد. روحها الوثابة جعلتها ترفض أن تظل حبيسة أطر مدرسة فنية محددة، تمردت على قوالب المدارس الفنية التقليدية، لم تلتزم بأطر مدرسة معينة. بالمقابل ألزمت نفسها بتبني هموم الإنسان وقضاياه وتطلعاته. ذاك جلي في إبداعها، حيث شغلت الأمومة والطفولة وقضايا المرأة عامة مساحة واسعة في فنها. جسدت ما تعانيه المرأة من استلاب اجتماعي واقتصادي. أبرزت ذلك لوحات وملصقات وبطاقات وكولاج، كما التزمت بالهموم الوطنية والقومية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، التي كرست لها الجزء الأكبر من إبداعها ونشاطها، إذ حملتها هما وموقفا ومبدأ، حملتها ريشة تنزف وهي ترسم الجرح الفلسطيني وجعا تارة، وصموداً شامخاً تارة أخرى. هللت لحجارة أطفال الانتفاضة إذ رأتها إرهاصات ستغير قواعد اللعبة، ستحرك الساكن، وجدتها شجباً للصمت العالمي المريب على العدوان، وإدانة لخذلان الأخوة العرب، وإشادة بالصمود البطولي لأطفال عزل. رسمت منيرة طفل الانتفاضة مسلحاً بعزم لا يلين، مستنداً لصمود لا ينكسر، متربصاً بجنود الاحتلال في كفه حجر أمضى من أسلحة العدو الفتاكة. التقطت منيرة المنفعلة دائماً المشهد الملحمي، وخلدته طفلاً صلداً من حجر أزرق، كأنه قُد من أجحار السماء. استنطقت صمت ذلك الحجر المدهش الذي تقذفه كف طفل طرية كذخيرة حية، أو يطلقها مقلاع تلوح به يد طفل آخر، ليصبح للحجر دي كأزيز الرصاص ورعبه. أبرزت منيرة ذلك في مجموعة أطفال الانتفاضة وحجارتهم أشبالا شجعان غاضبين صامدين في ساحات المقاومة وميادينها، يجردون جنود العدو من غطرستهم، يربكونهم يجعلونهم عاجزين عن ملاحقة أطفال يحلقون كطير أبابيل ترميهم بحجارة صلدة قاسية تشج تجرح تثير الرعب كأنها حجارة من سجين. تعدّ هذه المجموعة صدى لموقف منيرة القومي المشرف من القضية الفلسطينية، وإيمانها الراسخ بحق هذا الشعب في استعادة أرضه المغتصبة. لم يقتصر موقفها هذا على ما أبدعته في فنها، بل في نشاطها ودعمها اللامحدود. تحرص كل الحرص ألا يفوتها أي نشاط أو فعالية فيها دعم للقضية لتسهم بما لديها. أنفقت الراحلة عمرها ناشطة مثابرة ثقافياً وفنياً واجتماعياً، تثقف تحرض تهيب بالهمم تشحذها. كانت أمينة في فنها ونشاطها على مبادئها. الفن لديها موقف، خطاب واعٍ محرض. لم يكن الرسم للاستمتاع بالمشهد، ولا استعراضاً لمقدرة فنية ومهارة في سكب الأوان ومزجها، ولا كان أداة تجميل لإزالة القبيح، فهي لم تول رسم الجميل اهتماماً، ربما لأنه أمر مفروغ منه، ومسلم به. قد تكون قناعتها تجميل المشوه أجدى وأهم من تجميل الجميل. يبدو فنها لأول وهلة أنه فن للفن، أو أنه شطط فني يتخطى الحدود، يستفز وينفر بالرموز التي تزدحم بكثافة في أعمالها، فتجعلها عصية غامضة على المتلقي، فيخال ذلك الغموض انفصاماً بين المبدعة المتجردة من الغموض في حياتها وعلاقاتها، وموقفها الملتزم الصريح. مخزون الذاكرة والوجدان فائض بالكثير عن الفقيدة، خاصة أن صداقتنا امتدت أكثر من ثلاثين عاماً، منذ التقيت بها عام 1985 بجوار سرير عبدالعزيز مشري في مستشفى الملك فهد التعليمي بالخبر، حيث كانت تعوده. سريعة منيرة في كسب الأصدقاء والمعارف، بدماثة أخلاقها، وتلقائيتها، التي تهتك حجب المجاملة مع من تلتقي. الصداقة معها تبدأ بيسر دون تعقيد وسرعان ما تتجذر. وأنا أسترجع سيرتها منعتني طراوة الفقد ووجعه عن طرح ما هو طريف وظريف ذاك الذي اعتدنا نحن -أصدقاؤها- أن نستهل به أحاديثنا، كلما ورد ذكرها الطيب. علمتها حياتها أن تكون مستقلة. فكانت مستقلة في بيروت وفي القاهرة، ثم أمريكا في مشوار التحصيل العلمي، أيضاً في حياتها الوظيفية، وكذلك في تقاعدها. المؤلم حتى في مرضها لم تتخل عن استقلاليتها والاعتماد على الذات، لذا أخفت مرضها العضال على أصدقاء العمر. عاشت حرة فراشة زاهية الألوان طليقة تحلق في آفاق لا تحدها حدود حتى اتقدت في وهج ظلت ترنو إليه. لا تفرط بهذه الاستقلالية إلا بدافع حرصها على علاقة صداقة متينة، لا تطمع من ورائها في معاملة خاصة، أو مداراة، لكن ويل للصديق إذا لم يحرص على أسباب التواصل، أو يغفل حضور مناسبة اجتماعية، أو نشاط فني، أو ثقافي، في دائرة اهتمامها حينها تحتدم غضباً، ولا تقبل الأعذار. تقسو قسوة الأم الغيور، والأخت الكبرى، توبخ باللوم وأحيانا بالصد. كثيراً ما تتوتر العلاقة معها بفعل صراحتها القاسية، لكن سرعان ما تصفو العلاقة معها بمجرد تذكر طيبتها ونقاء سريرتها، وحسن نواياها. تزدري ضعف وغنج الأنوثة. ليس هناك قوة تجبرها على تقبل ما لا تستسيغه ضد الدمامة والخنوع والإذعان. لم تعرف النميمة، ولا النفاق لسبب وحيد ووجيه أنها مستعدة أن تواجهك بنقائصك وسلبياتك دون رأفة. لا تعنينها الأسرار، ولا تتوق لمعرفة ما يضن عليها بمعرفته، ولا تنقب عنه. أكثر ما يستفزها مصطلح حرمة إذا عبر في حديث أحد سهواً، أو عمداً لاستثارتها. ترى هذا المصطلح انتقاصا لمكانة المرأة وشموخها وكبريائها. هذا من أبرز سجاياها. ثراء شخصيتها جعلها ينبوعا ثرّا يفيض بالمعاني القوية الجميلة، يغري بالاستلهام. كنتُ محظوظا بمعرفتها، فكلما أشكل عليّ رسم شخصية امرأة قوية دون أن تغفل الرقة والحنان، شجاعة بلا تهور، مستقلة لا تعتمد على أحد. تعرف هدفها، أو رسم شخصية امرأة مختلفة عنيدة لا تهادن، لا تيأس لا ترضى بالذل والهوان، امرأة منيعة لا تساوم، لا تُشترى، لا ترضى بالظلم، لا تسكت عن الخطأ. لجأت لذلك النبع مراراً. استحضرتها موديلا حيا، رسمتها بوضوح في روايتي الأولى (السواق)، وفي روايتي الثالثة (من أغوى شريفة). فرضت نفسها بقوة في رواية (السواق). سأقتطف بعض ما ورد في الرواية كشاهد: فضلت فاطمة مرافقة الأستاذة نورة (وهي منيرة) كونها المستعدة دون تكلف لتوصيل أيّ زميلة تتقطع بها السبل بسبب هروب سائق، أو انشغال زوج. نورة بارعة في إزالة الحواجز بابتسامتها وبساطتها. هذا ما جعل فاطمة تفضل عرضها على عروض بقية الزميلات، خاصة أن أحاديث نورة عميقة وغنية بالمعلومات والحقائق، كأنها معدة مسبقاً، يضاف لهذا أن تجاربها مع السائقين ثرية كونها امرأة مستقلة تعيش بمفردها، مما جعلها من النساء اللاتي استقدمن سائقاً، وقدرتها في تقييم قيادة السائقين بناء على خبرتها في القيادة، فقد استعرضت في أكثر من مناسبة رخصة القيادة الدولية، التي حصلت عليها أثناء إقامتها في أمريكا، حيث تبرزها كوثيقة تعريف بشخصيتها، ومازالت تحتفظ بها، منتظرة اليوم الموعود، الذي يؤذن للنساء فيه بالسياقة، لتستريح من صداع السائقين وإزعاجهم. فاطمة في أمس الحاجة لهذه الخبرة الغنية، وهي تتهيأ لخوض التجربة الجديدة. فتحت نورة باب سيارتها لفاطمة، ثم استدارت لتأخذ مقعدها بجوارها تاركة بجوار السائق حقيبتها، أو الخرج كما أطلقت زميلتها خلود على تلك الحقيبة المصنوعة من السدو الشاحب بفعل التقادم بألوان العلم الفلسطيني، تحمل فيها أقلامها وألوانها وكراساتها، بالإضافة لكتاب، أو كتابين للإعارة لمن يستجيب من زميلاتها، أو الطالبات لعرضها وتشجيعها. أمرت نورة سائقها بالتوجه للمدرسة. تحرك بعد أن تأكد أنها لن تعود لمقعدها الأمامي بجواره كعادتها متحدية العرف السائد، وخصوصية المجتمع، مصرة على خصوصيتها هي، ومنها الجلوس بجوار سائقها لتعيد تغذيته بأوامر القيادة المثالية، ورحلة السلامة كلما غفل. تمكنت فاطمة وهي تصغي لحديث نورة الهامس أن تتأمل عن قرب الأقراط الخشبية، والإيشارب المصنوع من الكوفية الفلسطينية، الملازم لجيدها منذ انتفاضة القدس، حيث وزعته في معرض أقامته في المدرسة تحت عنوان « أطفال الحجارة». فنالت بتحفظ احترام مدرسة التاريخ الخلية النائمة، كما أطلقت عليها خلود، وأزال الجفوة، على الرغم من الاختلاف الكبير في الأفكار، فخفت حدة الخلافات بينهما، لم يلغ هذا الصلح إلا الخلاف، الذي نشب بسب هدم «طالبان» تمثال بوذا، إذ وصفت نورة عمل طالبان بالأخرق، وأنه اعتداء صارخ على الثقافة الإنسانية، وتصدت لها الخلية النائمة مدافعة عن طالبان في محاربتهم لرموز الشرك وأصنام الوثنية. تدفق حديث نورة حول ضرورة السائق مادامت قيادة السيارة شأن يخص الرجال فقط. بدأت بنظيرات ثقيلة، حول تساوي المرأة والرجل في القدرات العقلية، بل تفوق المرأة في السيطرة على الانفعالات والمحافظة على الهدوء أكثر من الرجل، وهذا أهم ما يحتاجه قائد المركبة، وعلى الرغم من إعجاب فاطمة بتحليلات واستنتاجات الأستاذة نورة، إلا أنها ترى أن الأمر لا يحتمل كل ذلك. احتجت لسائق أستقدمه، ما دمت مقتدرا، أما نورة فترى الأمور ليست بهذه البساطة، وهذا التسطيح. اعتدلت نورة. توقعت فاطمة أنها ستعيد غطاء شعرها إذ انحسر، فظهر شعرها مشدوداً كحزمة قش بشريط أحمر، كأنها تلميذة من الصفوف الدنيا، تركته ليستقر على الكتفين، فهي -هداها الله- تتساهل في هذا الجانب، على الرغم من احتشامها واستقامتها. لا تتذكر فاطمة قط أن انزلقت من فمها كلمة فيها فحش، بل كانت تعيب على زميلاتها نقلهن أسرار غرفهن ولو من باب المزاح. نورة حازمة لكنها تعامل سائقها باحترام وشفقة كعلاقتها بسائقها اليمني عيسى، لم يكن مجرد سائق التقطته من إحدى الورش، بل كان ابناً باراً يعتني بها وبمنزلها وحديقتها، وسيارتها، وهي كانت لهذا اليتيم بمثابة الأم الرؤوم منذ عادت به ذات يوم اقتحمت فيه ورش «الخضرية» غرب الدمام، غير عابئة بفضول عشرات العيون، لم يسبق أن رأت امرأة تطوف كالملاك بين فوضى الورش، دفعها فرط اهتمامها بدرجة لون طلاء سيارتها، ما تثيره علاقتها القوية بالألوان وموافقته التامة للون الأصلي، وعدم ثقتها بسائقها. رحب صاحب الورشة اليمني سالم بها، وهي تترجل من السيارة. قذف سالم تنكة زيت فارغة على صبي منشغل بالنظر إلى أول امرأة تدخل الورشة آمرًا إياه: «هيا احضر كرسي نظيف لعمتك. آلامها المشهد، فلامت صاحب الورشة: حرام عليك تعامل الطفل بهذه القسوة. رد سالم على رقتها: إذا رق قلبك عليه شلّيه معك ببلاش. ظنت أنه يمزح فجارته في الكلام: جد. كم راتبه؟.. أجاب: يكفيه أكل بطنه. ثم خاطب الصبي: جاك الفرج، هيا جيب ملابسك». في لمح البصر أزال عيسى ما أمكن من وسخ كفيه، واستبدل ملابسه بما هو أفضل، ووقف بجوارها حاملاً صرة تضم أشياءه غير مصدق، بشكل يوحي ببؤسه. أدخلته عند حلاق، وانطلقت تلملم له ملابس جديدة، ولوازم الحمام، فاجأته بها وهم يدخلون البيت فهمس: «يكثر خيرك، هذا كثير يا عمتي». جفلت نورة من لفظ عمتي، الذي يشيء بحياة الرق والخدم، فأمرته أن يخاطبها بخالة، أو ماما إن شاء. كانت له أمّاً شجعته على دخول المدرسة، ومنحته من وقتها لتعلمه، ولما وقف قرب كتبها ابتسمت له مشجعة على القراءة. بصوت مرتجف همست لفاطمة كمن يناجي فقيد: كان أفضل سائق خدمني عدة سنوات حتى غزا صدام الكويت. تهدج صوتها أكثر، صاحبه نشيج وهو يخرج واهنا: رحلوه مع جماعته، بكى، وهو يسلمني مفتاح السيارة، غادرني تابعت أخباره. آخر اتصال كان منذ ثلاث سنوات من نيروبي. لو هو حي اتصل ولأعدته. بقيت أشرطته، تركها في درج السيارة. أسمعها أحياناً. خاتمة هذا الفصل من حكاية سائقها عيسى. أخرجت من حقيبتها منديلاً لتزيل دمعة لم تستطع التحكم فيها. أشفقت عليها فاطمة، وأخذت عنها دفة الحديث، لتتيح لها صمتاً تعالج فيه ألمها: أنت طيبة وما سمعت عنك إلا كل خير، كل يوم أتعرف على شيء رائع فيك، الآن عرفت لماذا الأستاذة خلود تسميك كافلة اليتيم. رسمت فاطمة بمديحها ابتسامة بآهة على وجه نورة الحزين. موقف آخر يبرز شخصية منيرة تضمنته الرواية: حديث العنف الأسري أعاد الفنانة لقبضة استلهام مأساة «غصون» الطفلة ضحية العنف الأسري، فهي تحاول وضع مخطط لقتل بالتقسيط، موزعاً حصصاً بين من اختطفوا الطفلة من حضن أمها الحنون. تعاني الفنانة من خذلان فكرة تعبر بكفاءة عن حجم الوجع. تريد رمز قادراً على تجسيد الألم النفسي والجسدي في آن معاً، لكنه ما زال عصياً إنها موزعة بتوتر منذ اجتاحها خبر مصرع غصون، بين صرخة «إدوارد مينخ» التي مازال صداها يملأ الآفاق مذكراً بالخوف والهلع، وبين رموز الألم المتزاحمة في «جارنيكا بيكاسو». لسان الحصان الممتد بآهة وجع بكماء، أم الأم المهيضة التي تحاول النهوض من تحت أنقاض المدينة المهدمة؟.. ولا تسعفها الساقان المهشمتان. غصون أيضاً هُشمت ساقُها، بقضيب من حديد، ولا تستطيع النهوض، هل من قوة تعينها على النهوض أفضل من جناحين تحلق بهما فوق الغيوم، لو نبتا في موضع حقيبتها المدرسية، ترتفع بهما لبارئها، كي تشكو إليه ما حلّ بها. أقبلت الفكرة من بعيد. رسمتها نورة إسكتش سريعاً. غصون محلقة بجناحين كالملائكة، تطل بوجهها المليء بكدمات زرقاء على أرض البشر، مرسلة نظرة عتاب، ولوم، وازدراء، ومن بين أسنانها التي تشبه أسنان حصان جارنيكا تتدلى بصقة، تتوعد بها الجميع. في أسفل اللوحة تتناثر أدوات الجريمة، أدوات القتل البطيء: قضيب من حديد، عصى مكنسة، سلسلة، حذاء نسائي، تنكة كرسين، علبة مواد حارقة. وفرضت منيرة حضورها في روايتي (من أغوى شريفة؟) بشكل أوسع وأقوى، فهي من الشخصيات الرئيسية التي قام عليها بنيان الرواية. إنها حصة ابنة خالة شريفة، رافقت البطلة في رحلتها منذ بداية الرواية حتى النهاية. ورد في الرواية: يكفي حضور حصة صاحبة الذوق، والخبرة في الأقمشة والأزياء. هي أفضل من تستعين بها بنات الأقارب والصديقات. إلى جانب ما وهبها الله من ذوق رفيع، تفهم في تناسق الألوان، بفضل اختصاصها، إنها فنانة نمّت مقدرتها منذ طفولتها بمتابعة الأزياء في المجلات المتخصصة، التي يحضرها والدها من أرامكو، ومن ثم الدراسة. حصة دائمة الركض، كأن حياتها ماراثون، الركض حتى في طريقتها وهي تتحدث. يجب أن يكون المستمع منتبها ليتابع ما تقول. بدأت ركضها اللاهث منذ كانت طالبة، تعبر ممرات الكلية بخطوات سريعة أشبه بالركض، حاملة حقيبتها الثقيلة، وحاوية لوحاتها، حتى بعد أن عملت في التدريس ضاقت أروقة المدرسة بجريها الماراثوني. هذا ما تقوله لمن يسألها عن تركها مهنة التدريس، لكن المقربات كشريفة لم تخف عنهن سبب تقديمها استقالتها المتوقعة، أن المديرة المتشددة، منعتها من تعليم البنات رسم ذوات الأرواح، لما فيه من مساس بالعقيدة، فلم تستجب. دخلت في مصادمات مستمرة مع المديرة. طلبت من المديرة تعميما ينص على ذلك رسمياً من رئاسة تعليم البنات، ليس لدى المديرة ما تقدمه، اكتفت بالتأكيد على أن رسم ذوات الأرواح شرك بيّن، ولا يتطلب منعه تعميماً. كابرت وراحت تعلم فن الرسم، كما تشاء هي لا المديرة، حتى اقتحمت درسها ثلاث أمهات غليظات. وطلبن منها ألا تعلم بناتهن، ما فيه شرك لقدرة الخالق، حتى ولو كان شركاً أصغر، لا يخرج من ملة، فقدمت استقالتها حالاً. لا تريد أن تُدرس مادة تحوم حولها الشبهات، هناك من يحرمها، أو يحرم جانباً منها، وهناك من لا يقيم لها وزنا. تركت التدريس، لتنطلق إلى فلورنسا بتمويل من والدها، لتحقق حلما أن تدرس الفن في معقله. وتثري وتعمق ما درسته خلال أربع سنوات بدورة لمدة عام. أتبعتها بدورة مكثفة في تصميم الأزياء. هناك انفتحت ليس على الفن فقط، بل على العالم الرحب، عادت إلى الوطن محلقة، يحملها حلم احتراف الفن، لكنها كما تعالت بالحلم، تهاوت عندما اصطدمت بالواقع. وجدت الفن في موطنها على حد تعبيرها: «ما يؤكل خبز.. ولا يكسب احترام». كانت صدمة قوية ومفاجئة لطموحة تحلق بأجنحة الفن. كانت رومانسية، كما وصفت نفسها، توقعت وهي ترى الفلل الفارهة تشيد في الحزام الأخضر، والحزام الذهبي بالخبر أن يقتني أهلها لوحة. توهمت أن هذا الثراء، والحياة الباذخة تمخض عنها اهتمام بالفن، لكنها غصت بمرارة جارحة لما سعت لترويج الفن، ووجدت تجاهلاً. وجدت أن امرأة ثرية من علية القوم مستعدة أن تدفع عشرة آلاف ريال، وأكثر في ثوب سيبلى. تلبسه مرة، أو مرتين على الأكثر. وتتركه لغبار النسيان، وغير مستعدة لأن تدفع ألف ريال في لوحة فنية. يزدان بها منزلها، ثم تورثها لذريتها. وأحياناً لا تحتمل تقصيرهم، خاصة إذا أقامت معرضاً، وأعلنت عنه، ووجهت الدعوات، ويكون زوار المعرض على عدد الأصابع. استوقفتها واحدة تفتش في آخر معرض أقامته عن لوحة يغلب عليها اللون البرتقالي، لتناسب ستائر صالتها: أدور على لوحة ألوانها برتقالية، على الأقل إطارها برتقالي. ردت حصة بسخرية لاذعة لم تفهمها تلك السيدة: تلاقين طلبك عند الفنان لوتريك: امرأة ترفع جواربها، صالون دي سنت، في الفراش. وأشاحت وجهها عن هذا التدني. تقارن طوابير المنتظرين ساعات لدخول معرض في فلورنسا، جلهم عجائز واهنات يزحفن زحفاً إلى المعرض، قادمات من أقاصي بعيدة، ليكحلن عيونهن برؤية لوحة، أو يلقين نظرة على تمثال ديفيد قبل مغادرة الدنيا، فتخرج عن طورها، وتغلظ في القول: لو سمعوا بحملة تخفيضات كذب تلاقيهم يتراكضون كالقطيع إلى المرعى. وتقسو أكثر: يعرفون زين فيندي وفرساتشي وجفنشي، ولا يعرفون حتى دافنشي. وفي موضع آخر: جواهر منذ طفولتها، وهي شديدة الإعجاب بحصة. أناقة ملبسها، أسلوبها في الحياة، عمق ثقافتها، ومتابعتها لما يجري في الساحة على الرغم من مشاغلها. كانت بالنسبة لها مثلا يحتذى به. تدخل البطلة وابنتها مكتب حصة وهي تكابد خيبة أمل في مجتمع سعت وتسعى أن تراه جميلاً، ولا ترى تقدماً يبهجها، بل ترى تقهقراً ونكوصا: نهضت حصة من مكتبها مرحبة، وهي تعانقهما: كنت أنتظر أيّ عزيز لأفضفض معه، مهمومة. سحبت الجريدة من على مكتبها وراحت تقرأ: «تدخلت الشرطة لمنع زفاف بإحدى قاعات احتفالات الأعراس في الخبر. بتوجيه من جهات مسئولة بمنع الزفاف، حتى حسم القضية المعروضة على محكمة الخبر، المرفوعة ضد الشاب العريس من قبل أحد أخوة العروس، التي تم عقد قرانهما بحضور عائلي مشترك في منزل ذوي الفتاة بمدينة الخبر. وفاجأ أحد الأخوة العائلة بطلب فسخ العقد، لكن الزوج رفض الطلب، وأكد أنه من عائلة معروفة في المنطقة، وقرر إكمال مراسيم الزواج، لكن الشرطة ألزمت صاحب القاعة بعدم تمكين الزوجين من الموقع». تضيف: حدث هذا في الخبر، وفي هذا الزمن. لو حدث بحفر الباطن، أو عرعر بقلب الصحراء يمكن تنهضم. ما يهم إلا النسب. ما يسألون عن تكافؤ مستوى التعليم، ولا العمر. عجائز يتزوجون صبايا في أعمار حفيداتهم. وزواجهم ما يُمنع؟.. نفسي أسألهم هل زيد مولى النبي يكافئ زينب بنت أبي جحش في النسب؟. تُذكر هذه الوثبة بحدة منيرة، وسورات الغضب التي تنتابها حين تواجه أمراً، أو موقفاً يسيء للمرأة، أو ينتقصها حقها، أو تفوح منه رائحة التمييز بين الجنسين. هذا بعض من حضور الفنانة منيرة الطاغي في روايتي، وليس كله، وما استلهمته من شخصيتها إلا غيض من فيض. ما أظن أن هذه الكتابات المتناثرة تفي الراحلة حقها. فسيرتها الثرية، وشخصيتها الفذة جديرة بعمل أدبي ملحمي خاص لعله يحيط بإبداع الراحلة ومواقفها الزاخرة بالنبل.. رحم الله منيرة. ** ** **