تتقاسم الجدران ظلها، وهي تضع قدر العجين في بهو البيت، وخلفها أحفادها يحملون الصاج، وكل منهم يريد أن يفوزببنت الصاج -آخر الخبز وأصغره-. أشعلت موقدها ووضعت صاجها، ورتبت صحون الإقط على سفرة السعف حول إبريق تلثمت حمرته بالصدأ، وتركت الباب موارباً لجارتيها اللتين ستقودهما رائحة خبزها إلى المكان، لم تتوان الأولى في الحضور، ومنذ دفعت الباب انهالت أسئلتها المعهودة على رؤوس الصغار: - متى سيأتي والدكم؟ - عجبي، تركتم كل ملاهي الرياض لتروعوا بهمنا؟! - من الذي فتح سياج أغنامي مساء أمس؟ لا أحدَ يجيب؛ لأنها لا تنتظر الإجابة، فهي تعرف وهم يعرفون! - أهلاً بك يا أم سالم (تقهوي) يدي عجين، وبناتي في المطبخ! - لذيذ هذا الإقط يا جارة -وتغمز عينها-. - أبشري بالخير! - مررت بيت هدية وسمعت ضجيج أحفادها، يبدو أن ابنتها أتت، غداً يتعاون أحفادها وأحفادك على ترويع أغنامي وملاحقة دجاجي وهدر مائي، يا ربي الصبر حتى تنتهي الإجازة! - جهزي العصا يا أم سالم! جهزي العصا! استبشر الصغار بقدوم أحفاد هدية، وما اهتموا بعصا أم سالم فقد جربوها، وجربوا أحاديثها الطويلة المملة وطلباتها الكثيرة، ففضلوا النوم وزهدوا ببنت الصاج، واكتفوا بما نضج من الخبز. وبقيت الصغيرة صبور تقاوم النوم والملل وصوت ضيفتهم الحاد، بل تعالت على ذلك كله، وهي تلقي برأسها في حضنها؛ حيث يهطل فتات الإقط على شعرها ووجهها. - هل عرفت يا أم إبراهيم أن ثريا توفيت؟! - الله يرحمها! هذا طريق كل حي. - سبحان الله! كلما تذكرتها تذكرت يوم أمسكت محسن اليتيم وضربته ضرباً لا يتحمله الرجل.. لا أم له ولا أب ولا إخوة! .. العجيب أنه لم يذرف دمعة واحدة!! تحول فتات الإقط إلى حمم تتهاوى على رأس الطفلة.. وانتزع البدر أشعته التي غرسها حبوراً في مقل صبورواختفى أثره بسرعة عجيبة من زوايا البيت وجدرانه. ولم يبق من الضوء غير لهب الموقد الذي استحال إلى مارد يقترب منها محاولا خنقها.. وسط كل هذا حاولت النهوض باحثة عن حضن أمها؛ لتحتمي به تاركة المكان، وجدتها تنادي: بنت الصاج يا صبور.. تعالي.. تعالي! - هاتيها هاتيها.. الجوع لا يذبح! أسكتت أم سالم الجدة والتهمت الخبزة في لقمة واحدة. وابتعدت صبور عنهما، لكن الأوجاع التي نشرتها أم سالم في قلبها كانت أسرع من خطاها.. لم تمكنها من الوصول إلى أمها، لقد انفجرت في جسدها الصغير الغض وحولته شظايا، وهي تصرخ: ماتت.. ماتت يا أبي! ** **