عبدالرحمن بدوي؛ وصفه خصمه/ عبّاس العقّاد في ذروة السجال الحاد بينهما؛ بأنه: «حمار»! وزاد فقال: «لم يفهم بدوي الوجودية؛ كما أنه لم يفهم الفلسفة الإغريقية؛ وأنه جَهِلَ تماماً حدَّ الفلسفة الأوروبية الحديثة»! فهل كان العقّاد مُغالياً في تشنيعه أم كان دقيقاً في وصفه وهجومه؟! وهل نخطئ حقاً؛ عندما نقول: هذا رجلٌ؛ عرف طريقه مبكراً جداً؛ فخطَّط له؛ وشقَّ لنفسه سبيل التبريز والتفوق والنبوغ والعبقرية؛ بعزيمة من الفولاذ، ومِضاءٍ لا يلين؛ فأسَّس لنفسه طريقته الخاصة في التفلسف والتعمق والمنهجية والموسوعية؛ فكان له ما أراد؛ وصار فيلسوف العرب الوحيد في العصر الحديث؟! وهل كانت عبارة: «لأول مرة؛ نشاهد فيلسوفاً مصرياً» نِقمةً عليه؛ فقد أوغرت الصدور ضده! تلك المقولة؛ التي صاح بها طه حسين فرحاً مسروراً عقيب نيل تلميذه عبدالرحمن بدوي (1917-2002م) لأطروحته للدكتوراه في عام 1944م في جامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن) عن الزمان الوجودي صادقةً؟! تلك المقولة؛ التي شعر بدوي من يومها؛ أنه بحق فيلسوف العرب الجديد؛ الذي يسير في سلسلة فلاسفة العرب القدماء؛ بخطىً واثقةٍ؛ من أمثال: الكندي، والفارابي، وابن سينا، والغزالي، وابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد، وصدر الدين الشيرازي؛ وأن إسهامه في حقل الفلسفة والابتكار والتنظير؛ بوّأه أرفع مكانة عربياً وعالمياً! فهل كان طه حسين واهماً، وبدوي أيضاً؟! مفاتيح شخصية بدوي ذات يوم زار الجامعة المصرية القديمة المستشرق/ كراوس للتدريس فيها؛ بتوصية من المستشرق/ ماسينيون؛ فزاره بدوي، وكان ما زال طالباً في السنة الثالثة؛ فأخبره بدوي؛ أنه يتقن اللغة الألمانية؛ فأراد كراوس الاستيثاق من دعوى بدوي، الذي يحكي قائلاً في سيرة حياته: «فأخذ كتاب (دراسات إسلامية) لجولد تسيهر، وفتح صفحة؛ فرحت أقرأها، وأترجمها فقرةً فقرةً. ولغة جولد تسيهر صعبة؛ خصوصاً، وأن لغته الأصلية ليست الألمانية؛ بل المجرية. وتحدَّثنا بالفرنسية؛ فازداد إعجاباً! وغداة تلك الليلة؛ ذهب إلى طه حسين في مكتبه؛ مكتب العميد؛ وأخبره؛ بأنه التقى بطالبٍ في السنة الثالثة، من قسم الفلسفة؛ يتقن الألمانية، والفرنسية إتقاناً أدهشه كل الإدهاش! وفي الحال؛ استدعاني طه حسين، وذكر لي ما قاله كراوس عني؛ فأخبرته أنني أُحْسِن الإيطالية أيضاً. فقال على الفور: إذاً؛ سأرسلك في بعثةٍ صيفيةٍ إلى ألمانيا وإيطاليا؛ لتحصيل المزيد في هاتين اللغتين. هذا وعدٌ منِّي صريح؛ فتعالَ، وذكِّرني به قبيل امتحان آخر العام؛ لاتخاذ الإجراءات الرسمية. وكانت البعثات الصيفية مخصصة للمعيدين، والمدرسين المساعدين، ولا أزال طالباً في السنة الثالثة. لكنَّ قوة إرادة الدكتور طه حسين؛ لم يكن تقف أمامها أية شكليات، ولا اعتبارات تنظيمية! فكان عند وعده، وتقرَّر إرسالي في بعثةٍ صيفيةٍ؛ لإتقان اللغتين الألمانية والإيطالية في ألمانيا وإيطاليا». المطالعة والبحث والمنهجية شبَّ بدوي إذاً؛ فرأى مصر حاضنة الشرق والغرب؛ يؤمها وقتها المستشرقون، والعلماء، والشعراء، والفنانون، والرحالة، والساسة؛ فقد كانت القاهرة بمثابة باريس الشرق؛ حيث الثقافة، والتعليم، والصحافة، والفن؛ فمَنْ أراد الظهور في أيِّ مجالٍ؛ فعليه زيارة مصر؛ والنهل من أنهارها الفكرية! من هنا؛ اهتبل عبدالرحمن هذه الفرصة؛ فعكف يقرأ، ويتثقَّف، ويتقن اللغات الأوروبية؛ ساعِده الأول في النبوغ والعبقرية. فالتحق بدوي بجامعة فؤاد الأول؛ وكان مستواه العلمي يفوق المُتَخَرِّجين فيها؛ وكان يمتلك القدرة على الرطانة بعدة لغات أوروبية كأهلها تماماً، والكتابة بها، والدخول في حوار فلسفي أدبي مع أساتذته من المستشرقين! لا؛ بل؛ استطاع بدوي أن يمتلك المنهجية البحثية قبل أن ينال درجة الليسانس! وخير دليلٍ على ذلك؛ ما رواه عبدالرحمن بدوي في سيرته عن أستاذه الإمام/ مصطفى عبدالرازق شيخ الأزهر الشريف؛ عندما دخل معه في حوار فكري، وأسئلةٍ تنمّ عن نشوء الملكة النقدية، والمنهجية الفلسفية لديه؛ فقال: «ولَمّا أحسستُ بالفارق بين المنطق كما يُدَرِّسه (مصطفى عبدالرازق) استناداً إلى (البصائر النصيرية)، وبين المنطق الذي حصَّلته في كتاب عبده خير الله؛ كنتُ أُوَجِّه إليه (مصطفى عبدالرازق) بعض الأسئلة؛ سواء في أثناء الدرس، وعقب المحاضرة، وكانت من الساعة 12 إلى الواحدة؛ ممّا كان يسمح لي بالتحادث إليه طويلاً؛ حتى تأتي السيارة التي ستنقله إلى بيته؛ لهذا سرعان ما نشأت بينه وبيني علاقة وثيقة بعد مرور شهرٍ واحدٍ من بدء الدراسة»! نصائح كورييه له! وماذا أحكي؛ هل من قبل هذا؛ أو من بعده؛ لا؛ بل؛ عندما رأى المستشرق الفرنسي/ كورييه المشرف الثاني عليه أمارات النجابة والذكاء الحاد تشع من بين عينيه؛ ورأى مؤلفاته تترى سريعاً؛ وهو ما زال شاباً يافعاً؛ فحذَّره من أساتذته الناقمين؛ فقال له ناصحاً وجِلاً؛ كأبٍ يُشْفِق عليه من هجوم الآخرين؛ أعداء النجاح: «ألا فلتعلم أن كل كتاب تصدره؛ هو بمثابة خنجر في قلوب الحاسدين والحاقدين»! ويعلِّق بدوي على هذه الحادثة؛ فيقول في سيرته: «وهذه كلمة حكيمة جداً؛ طالما عرفتُ صدقها في كل مرَّةٍ أصدرتُ فيها كتاباً، في طول حياتي العلمية. لكنَّ ذلك لم يزدني دائماً إلاّ إيماناً برسالتي العلمية، وحرصاً على الاستمرار في الإنتاج، ولسان حالي في كل مرَّةٍ هو: موتوا بغيظكم؛ أيها الحاقدون»! شعار بدوي في الحياة! لذلك؛ اتخذ عبدالرحمن بدوي لنفسه شعاراً كي ينتج؛ وهو بمنأى عن حملات خصومه؛ فقال عن ذلك: «لهذا رأيتُ أنَّ الأمثل؛ هو أنْ أسلك طريقي غيرَ عابئٍ بأحدٍ؛ متخذاً من التَّرفُّع؛ بل الازدراء جهازَ دفاعٍ فعّالاً في هذا المحيط الوبيل. وجعلتُ قاعدة سلوكي في الحياة؛ هي: امتلئ ثقةً بنفسك؛ وازدراءً للحاقدين»! مبتكرات بدوي ورياداته العالمية! أجل أجل؛ كان عبدالرحمن بدوي يعرف قيمة نفسه؛ وما أسداه للإنسانية عندما حقَّق أصول مخطوطات أرسطو الموجودة في المصادر العربية؛ والتي لا توجد في اليونانية ولا اللاتينية، ولا غيرها من لغات الغرب؛ فقد حفظها بدوي من الضياع؛ وقدَّم لها، وشرحها، وعقَّب، وصحَّح؛ وعن إنجازه العالمي ذلك؛ يقول بدوي في سيرته: «وقد قرَّرتُ منذ اللحظة الأولى؛ أن أُحقِّق كتب أرسطو المنطقية الثمانية الموجودة في المخطوط الممتاز رقم 2346 عربي؛ وهو ما عَجَزَ عن تحقيقه كل الباحثين حتى ذلك الحين؛ فلم يستطيعوا أن يُحَقِّقوا منه إلا ترجمة كتاب المقولات، وكتاب العبارة، وهما لا يمثلان معاً غير 5% من المخطوط! برغم المحاولات العديدة من جانب المستشرقين منذ ما يقرب من مائة عام أو يزيد»! إحياء إنتاج أرسطو من العدم! ويقول بدوي: «وأثناء صيف سنة 1947م حقَّقتُ(المقولات)، و(العبارة)، و(التحليلات الأولى)، و(القياس)، وفور عودتي إلى مصر؛ بدأتُ في طبعها في مطبعة دار الكتب المصرية، وتم الطبع في يوليو سنة 1948م، وصدر هذا الجزء الأول؛ بعنوان (منطق أرسطو). ويقول بدوي: «وفي صيف سنة 1948م؛ حققتُ كتاب (البرهان)، وكتاب (الطوبيقا). ولدى عودتي إلى مصر في أكتوبر سنة 1948م دفعتُ به إلى مطبعة دار الكتب المصرية، وصدر هذا الجزء الثاني من (منطق أرسطو) شاملاً كتابَي (البرهان والطوبيقا) في صيف سنة 1949م. وفي صيف سنة 1949م؛ واصلتُ العمل في المخطوط؛ فحقَّقتُ كتابَي (السوفيطيقا) بترجماته الثلاث، و(إيساغوجي)، وظهرت الكتب الثلاثة ضمن الجزء الثالث من (منطق أرسطو) في سنة 1951م. أخطاء فلتسر! يقول بدوي عن منجزه العالمي هذا: «وهكذا؛ أنجزتُ هذا العمل الجبّار؛ متحدياً كل الباحثين- القدماء والمعاصرين؛ وهذا ما أثار حقد العاجزين الحاسدين الأدعياء؛ مثل رتشرد فلتسر؛ الذي كتب مقالاً طويلاً في مجلة (الشرق) راح يخبط فيه على عادته؛ دون علم ولا دراية.. فهو لم يُصحِّح موضعاً واحداً من النص ضمن كتابه؛ وإلا لكان قد أسهم بشيء! وإنما راح يقارن بين الترجمة الواردة في الصُّلب، وبين بعض الترجمات الأخرى الواردة في هامش المخطوط.. وقد توهَّم السطحيون؛ الذين لا يُحسِنون ما يقرأون؛ أنَّ ما كتبه فلتسر يتعلق بتحقيقٍ للنص؛ مع أنَّ الأمر يتعلق فقط بالمقارنة بين الترجمات المختلفة الواردة في نفس المخطوط، والتي أوردتها كلها بعنايةٍ فائقةٍ»! بدوي يفتخر بنفسه! ويقول عبدالرحمن بدوي: وبهذا العمل العظيم؛ الذي لا أجد له مثيلاً في تاريخ تحقيق المخطوطات في العالم كله؛ وبأية لغةٍ؛ أَدَّيتُ مهمةً عظيمة الفائدة: 1- فقد أنقذتُ هذه الترجمة العربية القديمة الممتازة من الضياع؛ خصوصاً ومخطوط باريس هذا تتحلَّل أوراقه عاماً بعد عامٍ؛ إذْ مضى عليه قرابة ألف عامٍ، وورقه هش يتفتّت كلما اطَّلع عليه إنسان؛ برغم محاولات ترميم بعض أوراقه». 2- ويسَّرتُ للباحث في تاريخ الفلسفة الإسلامية الاطلاع على ترجمة منطق أرسطو إلى العربية في القرنين الثالث والرابع للهجرة (التاسع والعاشر للميلاد)؛ وهذا هو الأساس في قيام أبحاث في تاريخ الفلسفة الإسلامية، وتأثير أرسطو عليها. 3- وقدَّمتُ تحقيقي كتب أرسطو المنطقية في أصلها اليوناني أداةً غير مباشرةٍ؛ لتحقيق هذا الأصل؛ إلى جانب ما لدينا من مخطوطات يونانية ترجع كلها إلى فترةٍ متأخرةٍ عن الأصل اليوناني؛ الذي عنه ترجم المترجمون العرب هذه الكتب المنطقية». 4 - وفيما عدا كتابي (الخطابة)، و(الشعر)؛ ولهذا أعدتُ ترجمتها؛ فيمكن الانتفاع بهذه الترجمات العربية القديمة، والاستغناء بها عن إعادة ترجمتها. وبعد أن فرغتُ من تحقيق(منطق أرسطو) على هذا النحو؛ رحتُ أُفَتِّش في مخ طوطات المكتبة الوطنية (بباريس) عمّا يستحق النشر مما فيها من كتب الفلسفة: في صيف سنة 1951م فحقَّقتُ قسم (البرهان) من كتاب (الشفاء) لابن سينا، وقد ظهر سنة 1954م بعد مقارنته مع مخطوطات القاهرة». إذاً؛ عاش عبدالرحمن بدوي؛ وهو يدرك؛ لا؛ بل .. يوقن تماماً؛ أنه رجل منذورٌ للفلسفة والتفلسف؛ وأنه رجلٌ مُحارَبٌ من بني أهله، ومن بني تخصصه؛ فمن ثَمَّ ساح على وجهه مُهاجِراً في أرض الله يبحث عن الحكمة والفلسفة في مكتبات أوروبا؛ في باريس، ومدريد، وروما، وبرلين، وليبزج، وليدن، ولندن، والبودليان، والإسكوريال، وغيرها! فقرأ كل ما فيها؛ من مخطوطات، ومؤلفات؛ باللغات التي يتقنها، وهي: الفرنسية، والإنجليزية، والألمانية، والإيطالية، والإسبانية، واليونانية، واللاتينية، والفارسية، والهولندية! ففيمَ العجب؛ عندما نعلم؛ أنه ألَّف مائةً وخمسين كتاباً؛ باللغات: العربية، والفرنسية، والألمانية، والإنجليزية، والإسبانية، والإيطالية؟! شاغِل الناس! ولهذا؛ فلا نستغرب اختلاف الناس حول إنتاجه وشخصه؛ لأنه مفكر موسوعي من العيار الثقيل؛ لم تره البلاد العربية منذ ابن رشد؛ لذلك؛ هام به الكثيرون مدحاً وتقريظاً؛ وركله الآخرون؛ وحاولوا إسقاطه من عليائه! فلماذا لا نُصدِّق إذاً؛ تلميذه أنور عبدالملك القائل:»كيف يكون المدخل إلى رجل لا يقبل التصنيف؟». وهل نذهب مع حسن حنفي القائل عن أستاذه بدوي: أراد أن يكون في العالم طبقاً لمقولة الوجوديين: «الوجود في العالم»، وانتهى إلى مقولة الصوفية: «العالم في الوجود»؟! وهل نرى رأي أحمد محمود صبحي عنه: «ما قام به في نطاق الإسلاميات، وبخاصة تحقيقاته على مخطوطات؛ فإنه ينوء به فريق كامل من المشتغلين بها؛ ولا يقدر على ذلك غير عبدالرحمن بدوي»؟! وهل نرتاح لكلام تلميذه/ محمود أمين العالم: «فيلسوف عظيم؛ تحلى بالذاتية والوجودية؛ وتخلى عن المجتمع بإرادته»؟! وهل نصدق أيضاً؛ ما قاله عنه علي زيعور تحت عنوان (المذهب الإنسانوي العربي في فكرنا التأسيسي وفي القطاع الفلسفي الراهن): «نحن إن رفضنا فكريات بدوي؛ المعادية للعلم والعقلانية؛ فلكي نستدل على الطريق. لم تكن فلسفته الطريق؛ لكنها كانت ضرورية للإرشاد إلى ما تكون الطريق، وإلى ما يجب أن نكون ونرى ونفعل. نظرته علمتنا، أرشدتنا إلى نقائضها؛ فمعظم نقائض ما قالته الوجودانية العربية؛ هو المتبقي، والمنعش، وسقطاتها نوّرتنا»! وهل نوافق علي حرب في آرائه بحق بدوي ومؤلفاته في التحقيق والتاريخ للفلسفة؛ بأنها: «خلت من الابتكار، والجديد، ومن التحليل والمعالجة النقدية؟! وهل نوافق على رأي تلميذه مراد وهبة؛ بأنه لم يأتِ بجديدٍ خلا مرحلته الأولى من حياته الوجودية العارمة؟! وهل ما توصل إليه أحمد بكر موسى عن مشروع بدوي صحيح على إطلاقه: «لم يكن مشروعًا فكريًا واحدًا ولم يسلك طريقًا مستقيمًا، وإنما اعترته انعطافات حادة ليس منها الدافع المالي وإلا لما أتت هذه الكتب بهذا الإتقان الذي شهد له الجميع، وأرى أن الدافع أقوى من المال». وهل تفسير تلميذه فؤاد زكريا؛ لاتجاهاته الإسلامية عن القرآن والنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في أخريات حياته؛ إنما كانت بدافع المال وحب المال».. كان غير منطقي؟! وإلا فلماذا؛ لم يفز بدوي بأية جائزة مصرية أو عربية؛ ولم يحز أي تكريم في حياته؟! وهل اهتدى بدوي أخيراً إلى ما أشبع نهمه المعرفي والفلسفي؛ فاتجه بكليته؛ كما يقول بكر موسى؛ حيث اكتشف: «طرف المواطنة الثالث، لقد اتسم بدوي طوال حياته بالقلق الروحي، وبحثه الدائم عن الاستقرار النفسي، وقد اهتدى أخيرًا إلى الدين وإلى الله، أقول اهتدى إلى الدين وركن إليه»؟ فإذا أردنا تفسير كل هذا اللغط والصخب؛ الذي صاحب وما زال عبدالرحمن بدوي؛ في مؤلفاته، وبحوثه؛ في آرائه؛ وما أحدثته سيرته الذاتية من خروج على الأعراف، والتقاليد؛ حيث هاجم جميع رجال عصره في المجالات كافة؛ باستثناء: أستاذه/ مصطفى عبدالرازق، وبعض المستشرقين! فلا شك؛ أنه رأى الهزائم العربية المتوالية، والارتدادات المعرفية، والتخلف الحاد يسيطر، وينتشر من حولنا؛ ورأى أن؛ ما بشّر به يتهاوى أمام عينيه، وأن ما نظّر له تصادمه الحياة والناس؛ فلا نحن حققنا النهضة؛ ولا نحن؛ فهمنا ديننا إلا صورياً شكلانياً! إزاء كل هذا وذاك؛ تقوقع بدوي على نفسه؛ وتشرنق على ذاته؛ وسابق الزمن؛ لإكمال مشروعه بشتى السبل؛ فكان يؤلف وهو مسافر؛ ويسافر وهو يؤلف؛ ويقبع في مكتبات أوروبا الأيام والشهور؛ وهو الذي يدشن بمفرده؛ ما عجزت الجامعات والجماعات عن إنجازه قاطبة! ففيم الحيرة إذاً في أمره وفكره وفلسفته؟! ولماذا كل هذا العقوق الظالم لهذا الفيلسوف؛ الذي تخلى عن الصاحبة والولد؛ من أجل؛ أن يخرج للعرب والمسلمين؛ ما يشمخون به من نتاج يضارع به فلاسفة الغرب؟! لذلك؛ عرف بدوي قيمة نفسه؛ وما تحمله من نفيس الفكر؛ وعريق التفلسف؛ فجاهد به الجهل، والتخلف، والتقليد، والجمود، والهزيمة؛ ووقف يتحف العرب والغرب؛ بنتاجه الثر الرائق؛ وجودياً؛ ويونانياً؛ وأفلوطينياً؛ وهيلينياً؛ ومشّائياً؛ وصوفياً؛ وكلامياً؛ ويهودياً؛ وكنسياً؛ وإسلامياً؛ وإلحادياً؛ وإشراقياً؛ واستشراقياً؛ وصورياً؛ وتراجيدياً؛ ومسرحياً؛ وشعرياً؛ ومقارنياً؛ وتحليلياً؛ ونقدياً! إنه رجلٌ؛ اختلفت فيه الآراء إلى حد التضارب والقطيعة؛ ويكفيه شهادةً له؛ أنه شغل العقّاد، وطه حسين، والمازني، وتوفيق الحكيم، وأحمد أمين، وزكي نجيب محمود، والمستشرق الفرنسي لالاند، وبقية المفكرين العرب على اختلاف مشاربهم ومنازعهم! فكانت آراؤه وكتاباته حديث المجالس، والأكاديميات، والصالونات، والمنتديات، والصحف، والمجلات! ويكفي عبدالرحمن بدوي؛ أنه عرَّف العرب بالوجودية قبل سارتر بعدة سنوات .. لا؛ بل إنه عدَّ سارتر ممَّن لم يفهم الوجودية الحقيقية! فرحمة الله على عبدالرحمن بدوي؛ في مئوية ميلاده الأولى؛ التي مرَّتْ مؤخراً خافتةً؛ بلا ذِكرٍ ولا احتفاءٍ؛ فمتى يتذكره العرب، واليونسكو، ومعهد المخطوطات العربية، والألكسو، والإيسسكو؛ بأي تكريم؛ وهو الفيلسوف المصري والعربي الوحيد في العصر الحديث! ** **