الواقع أن انتقال الفكر اليوناني، الى الحضارة العربية الإسلامية، كان بفضل مجموعة من المترجمين الكبار، الذين نقلوا أمهات الكتب اليونانية الى اللغة السريانية ثم الى العربية، وأحياناً كان يتم النقل مباشرة من اليونانية الى العربية. ومن جراء التشجيع السياسي ازدهرت حركة الترجمة وحققت انتشاراً واسعاً. وكان الخليفة المهدي توفي 169 ه أول من أشار الى ضرورة ترجمة الكتب اليونانية وفي شكل خاص الفلسفية منها، لذلك طالب المهدي البطريرك النسطوري طيموثاوس الأول بترجمة كتاب"مقولات أرسطو"، وبالفعل تمت هذه الترجمة. وكانت هذه هي الشرارة التي بدأت معها حركة الترجمة بالتطور الفعلي، وبلغت أوجها في القرنين الثالث والرابع للهجرة، ومن أشهر المترجمين في هذين القرنين: عبد المسيح ابن ناعمة الحمصي، ويوحنا بن ماسويه، وحنين بن إسحاق العبادي، وإسحاق بن حُنين، وقسطا بن لوقا البعلبكي، وأبو بشر متى بن يونس القنائي، وأبو زكريا يحيى بن عدي، وأبو علي بن زرعة. والحقيقة أن لهؤلاء الرجال الأفذاذ الفضل الأكبر في تطوير الحضارة العربية الإسلامية، لأنهم وضعوا مُحصلة الحضارة اليونانية من علوم وفلسفة وآداب، في متناول مُريدي العلم والمعرفة في الإسلام، فأفضى ذلك الى تكوين تيار ثقافي جديد غريب عن طبيعة الحضارة الإسلامية. لكن أرباب المعرفة العرب لم ينظروا الى الثقافة اليونانية بوصفها ثقافة غريبة عنهم، بل تأثروا بها الى أبعد حد، ونظروا الى أنفسهم على أنهم الورثة الحقيقيون لها. ويذكر المؤرخون أن فيلسوف العرب الأول الكندي توفي سنة 252 ه افتعل نسباً أكد فيه أن"يونان"وهو الجد الرمزي لليونانيين القدماء هو أخ لقحطان جد العرب. وبذا يصير العرب هم الورثة الشرعيون للثقافة اليونانية، بل إن ابن سينا عندما كان يأتي على ذكر الفلاسفة اليونانيين كان يسميهم"الشركاء". وهنا تظهر أهمية حركة الترجمة في بلورة العقلية العربية، لكن السؤال المطروح هو: الى أي حدّ استطاع العرب أن يستفيدوا من الفكر اليوناني، وهل ساعدهم هذا الفكر على القيام بنقلة نوعية على المستوى المعرفي؟ في هذا المنحى يرى عبدالرحمن بدوي أن الحضارة العربية الإسلامية لم تأخذ من الحضارة اليونانية المقوِّمات الجوهرية لها، وإنما أكثر ما عُني به العرب والمسلمون من الثقافة اليونانية هو العلوم العملية، التي تتميز بأن موضوعاتها ثابتة مشتركة بين الناس جميعاً أياً كانوا، لأنها مرتبطة بأوضاع عامة خارجية، لكن ما يُميز أية حضارة في شكل خاص هو الجانب الذاتي فيها، الذي يتجلى أساساً في العلوم الروحية أو الفنون. ولا شك في أن الحملة العنيفة ضد الروح اليونانية والتي تمثلت في إحراق وإتلاف آلاف الكتب اليونانية في الفلسفة وعلم الفلك والهندسة، كانت دليلاً واضحاً على التناقض بين الروح السائدة في الحضارة الإسلامية والتراث اليوناني. وبدأ هذا التناقض بالاطراد بعد وفاة الخليفة المأمون. وسبب هذا التناقض من وجهة نظر عبدالرحمن بدوي هو أن الروح اليونانية تمتاز بالذاتية، أي أن الموجود الإنساني يشعر باستقلاليته كذات إزاء الذوات الأخرى، وهو بذلك يؤكد فرديته الى أقصى حد، ولا يقبل زوال أو انحلال هذه الذاتية في المطلق أو اللامتناهي، بل إن فكرة اللامتناهي مرفوضة، في عقل الإنسان اليوناني، لأن الحقيقي بالنسبة إليه هو المتناهي، وفي المقابل الروح الإسلامية تُدمِّر الذاتية لمصلحة اللامتناهي. وهذا يؤول الى نتيجة خطيرة جداً، وهي أن إنكار الذاتية لا يساهم أبداً، في تكوين معرفة حقيقية بالحياة، لأن المعرفة، في صميمها، تقوم، على شوق الذات الى معرفة الموضوع، أي انها تضع نفسها في مواجهة الموضوع ولا تقبل الخنوع له، ولذلك كانت الحضارة اليونانية غنية جداً بمذاهبها الفكرية، لأن كل ذات تضع نفسها في مواجهة مع الذوات الأخرى ولا تقبل أن تنسج على منوالها. وهذا التنوع في الذوات أفضى الى تنوع في الآراء، لكن الروح الإسلامية وبما أنها تنكر الذاتية، فهي تفنى في اللامتناهي وتفقد استقلاليتها فيه، ومن جراء ذلك تحولت الذوات المختلفة المتعددة الى ذات واحدة صارت لها هوية جمعية. وعليه، لا تستطيع الروح الإسلامية أن تقبل الأفكار المختلفة المتناقضة، بل ما تقبله فقط هو الأفكار التي تكون على هيئة"الإجماع"، ولكن بدوي يغالي في نقده هنا، فيقول: إن الروح الإسلامية تقبل"الإجماع"ولكنها لا تقبله على أساس أنه إجماع ناجم عن أفكار لذاتيات مختلفة تمّ حصول نوع من التوفيق بينها، وإنما تقبله على أساس أنه تعبير عن المطلق أو اللامتناهي. وهذا أفضى ببدوي الى التأكيد أن الحضارة الإسلامية لم تتمكن من إبداع فكر حقيقي، لأنها ترفض الذاتية. والدليل على ذلك أنه لم يكن لأحد من المشتغلين بالفلسفة اليونانية من المسلمين روح فلسفية أصيلة، ومرد ذلك الى أنهم لم يقدروا على الاستفادة من الفكر اليوناني في شكل صحيح وعجزوا عن ابتكار فلسفة جديدة، بل ان كل ما فعلوه هو أنهم حاكوا الفكر اليوناني بصيغ مختلفة غير إبداعية. ويطرح بدوي سؤالاً مهماً جداً يتعلق بالسبب الذي يقف وراء عدم وجود فن إسلامي؟! وفي رأيه أنه ليس كافياً القول إن النواهي الدينية تحول دون وجود مثل هذا الفن، لأنه يوجد في تاريخ الإسلام الكثير من الآراء والمذاهب فلماذا لم يَحل الدين دون وجودها؟ ويستنتج بدوي أن الفن لم يظهر في الحضارة الإسلامية، لأنه مُنافٍ للروح الإسلامية، ويستكمل بدوي نقده العنيف، فيرى الى أن ما يسمى"فناً إسلامياً"ليس فناً على الإطلاق وإنما مجرد"تزويق". وهذا التزويق هو فن آلي يفتقد الى القدرة على تحقيق النموذج الأعلى في الفن، وهو ناجم أساساً عن فقدان الذاتية. والكلام على الفن، يُفضي، الى الحديث عن نظرة كل من الروح اليونانية والروح الإسلامية الى"المكان". فالروح اليونانية تفهم المكان على أنه الأجسام نفسها في تحديدها وتعيينها، أما الروح الإسلامية، فالمكان في نظرها خلاء غامض هائل. ويعزو بدوي فشل المسلمين في الإبداعات العلمية الهندسية الى نظرتهم هذه للمكان، لأنهم حوّلوا المكان الى أمر مجهول، ولا يمكن بالتالي فهمه علمياً، غير أن اليونانيين قسّموا المكان الى أشكال هندسية وأعداد، انطلاقاً، من تفسيرهم لجسمية المكان. وهذا الوضع، عموماً، أفضى الى إهمال المسلمين علم الحساب وعلم الفلك، وحتى المنطق كان مرفوضاً من قِبَلهم، لأنه يفضي الى تأكيد الذاتية. وقد سرى المثل:"مَن تمنطق قد تزندق"سريان النار في الهشيم، لكن في مقابل ذلك اهتم المسلمون بمبحث"الإلهيات"في الفلسفة اليونانية، لكنهم مزجوا بين الإلهيات الفلسفية اليونانية وآرائهم الخاصة، فكانت النتيجة نزعة تلفيقية لا تُعبِّر عن خصائص الروح اليونانية. ويُعطف على ما سبق أن الروح الإسلامية أخذت أكثر ما أخذت من الروح اليونانية العناصر الدخيلة على التراث اليوناني الخالص، أي أخذت العناصر الشرقية، التي امتزجت بعناصر يونانية جراء فتح الإسكندر المقدوني بلاد الشرق. ويستنبط بدوي من هذا أن الأفلاطونية المُحدثة، التي تقوم، على نظرية الفيض وعلى آراء صوفية لقيت رواجاً هائلاً، في الحضارة الإسلامية، لأنها أساساً شرقية الجذور. ومن هنا ظهرت نزعة توفيقية في الثقافة الإسلامية هدفت الى مزج فلسفة أرسطو التي تتسم بنزعتها العلمية بفلسفة الأفلاطونية المحدثة التي تتسم بطابع روحاني أو صوفي يُناسب الروح الإسلامية. وفي هذا السياق جاء كتاب الفارابي"التوفيق بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو". وهذا الكتاب هو خير تعبير عن هذا الوضع. وهنا يشير بدوي الى ظاهرة في غاية الغرابة هي أنه على رغم الترجمات الكاملة لمؤلفات أرسطو والعناية الكبيرة بشرحها والاهتمام بهذه الظاهرة الى أبعد حد في القرنين الرابع والخامس للهجرة إلا أن هذا الأمر لم يكن سليماً، لأن أرسطو لا يسود إلا في أدوار العقم والتحصيل والعرض التفصيلي للآراء. وسبب ذلك أن فلسفته ذات تأثير خارجي، فهي تقدم نتائج جاهزة نهائية من دون تحفيز على الابتكار. ولم يكن الأمر كذلك بالنسبة الى أفلاطون فهو على رغم كونه يونانياً إلا أن في مذهبه"دماً شرقياً أو شبه شرقي"، غير أن المشكلة هنا هو أن المسلمين لم ينجحوا في الاستفادة من فلسفة أفلاطون، وهذه الاستفادة كانت ممكنة لأن فلسفة أفلاطون فيها تأثير باطن مولِّد لأفكار جديدة في حضارات تكون في طور التكوّن والنشوء وفيها تحفُّز للابتكار والإبداع. ولهذه الأسباب مجتمعة يعتقد بدوي بأن الحضارة العربية الإسلامية فشلت في استيعاب وتطوير التراث اليوناني، وكانت النتيجة أفول هذا التراث وزواله. ولا غَرْو أن عبدالرحمن بدوي بذل جهوداً جبارة من أجل إحياء هذا التراث من جديد، فقام بتحقيق الكثير من المؤلفات الفلسفية اليونانية بترجماتها العربية القديمة مثل:"منطق أرسطو في ثلاثة أجزاء"،"كتاب السماع الطبيعي لأرسطو في جزءين"،"كتاب الأخلاق لأرسطو"،"فن الشعر لأرسطو"وما شابه... وبحث بدوي أيضاً في الكتابات والترجمات العربية القديمة حول فلسفة اليونان وانتهى الى وضع كتب مثل:"أفلاطون في الإسلام"،"أرسطو عند العرب"وپ"أفلاطون عند العرب"وپ"الأفلاطونية المحدثة عند العرب"وپ"المثل العقلية الأفلاطونية"وپ"الأصول اليونانية للنظريات السياسية في الإسلام"وغيرها...، ولم يكتف بدوي بذلك فقام بتأليف كتب مثل"ربيع الفكر اليوناني"وپ"خريف الفكر اليوناني"وپ"أفلاطون"وپ"أرسطو"... وهذه البحوث المُضنية التي قام بها الراحل الكبير عبدالرحمن بدوي قادته الى آرائه السابقة. والحقيقة أنه في هذه الآراء متأثر بالمستشرقين ومزاعمهم من أمثال كارل هينرش بيكر وماكس مايرهوف وبول كراوس وإغنتس غولد تسيهر... في أي حال، وإن كان بدوي قاسياً في نقده، إلا أنه دافع دفاعاً عظيماً في ما بعد عن الحضارة الإسلامية والدين الإسلامي في وجه الكثير من المستشرقين.