عليك مني سلام الله ما صدحت على غصون آراك الدوح ورقاها الإنسان السوي في هذا الوجود يحاول دوماً ترويض نفسه وجلب ما يؤنسها وإبعاد هموم الحياة ومشاغلها حتى وإن كان ذا صحة وعافية ويُسر من المال، إلا أنه بحاجة إلى الاستمتاع بالحياة أكثر فالإنسان كما يُقاَلُ: اجتماعي ومدني بالطبع، فيلجأ في أوقات فراغه إلى تسريح نظره في بطون الكتب الدسمة الحافلة بالحكم والطرائف مثلاً حسب ميوله وراحة باله، أو لتبادل الزيارات مع من يأنس برفقتهم وصحبتهم، ولقد أحسن الشاعر حيث يقول: وما بقيت من اللذات إلا محادثة الرجال ذوي العقول ولكن كيف يدوم صفاء الحياة ولذيذ عيشها، وهادم اللذات يفاجئنا كل يوم بغادٍ ورائحِ من والدين وإخوة أو جار، وحبيب قضى أجمل أيام الدراسة معه..، فبينما كنت مسروراً بمحادثة بعض الأصدقاء إذ بهاتف الشيخ الأديب عبد الله بن الشيخ سعد المبارك يعزيني في زميل الدارسة بالمعهد العلمي بالرياض الشيخ عبدالمحسن بن عبدالله بن علي آل الشيخ الذي رحل إلى دار النعيم، وأديت عليه الصلاة بعد صلاة عصر يوم الأربعاء 1-7-1435ه بجامع الملك خالد بأم الحمام، بحضور أمير منطقة الرياض صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن بندر بن عبدالعزيز، وجموع كثيفة من أسرته رجالاً ونساءً ومن تلاميذه والمصلين عموماً، ثم حمل إلى جدثه بمقبرة أم الحمام - تغمّده المولى بواسع رحمته - ولقد وُلد بمدينة الرياض ونشأ في بيئة علم وأدب، وقد درس في الكتّاب والمساجد حتى حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، ثم درس مبادئ علم التوحيد والعقيدة وسائر علوم الشريعة في حلق المشايخ بمسجد سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بدخنة، وبعد افتتاح المعهد العلمي عام 1371ه التحق به حتى تخرجنا سوياً عام 1374ه، ثم افترقنا فواصل الدراسة بكلية الشريعة حتى نال الشهادة العالية بها عام 1378ه، أما أنا فحصلت على الشهادة العالية من كلية اللغة العربية عام 1378ه، وكان - رحمه الله - قبل فتح المعهد يعمل كموظف كاتب عمال زكاة الثمار في القصيم وغيرها، كما كان ينتدب لتوزيع صدقات الدولة ومساعداتها لبعض المحتاجين في مناطق المملكة للثقة التامة به، كما عمل عضواً في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإماماً لمسجد الأمير ناصر بن عبدالعزيز - رحمه الله - في حي الحماد بالرياض عدة سنوات، كما اشترك في بعض المؤتمرات كمؤتمر الدعوة والدعاة في المدينةالمنورة.. ، وبعدما نال الشهادة العالية من كلية الشريعة عيِّن مدرساً في معهد الرياض العلمي مدة ثلاث سنوات، ثم أصبح مفتشاً للمعاهد العلمية في المملكة العربية السعودية حتى عام 1391ه، إذ صدر أمر سامٍِ من جلالة الملك فيصل - رحمه الله - بنقله إلى وزارة الدفاع والطيران والمفتشية العامة في 22-5-1391ه برتبة عقيد مديراً عاماً للشؤون الدينية في القوات المسلحة تحت قيادة صاحب السمو الملكي وزير الدفاع الأمير سلطان بن عبدالعزيز - رحمه الله -، فبلغ رتبة لواء بتاريخ 1-5-1414ه حتى أكمل في الوزارة ما يقارب (24 سنة)، وبعد تقاعده صدر أمر كريم بتعيينه على المرتبالممتازة مستشاراً بالشؤون الدينية، ولازال يعمل فيها حتى وقت قريب .. وقد نال وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الثالثة، ووسام الملك فيصل من الدرجة الثانية، وغير ذلك من شهادات وميداليات تقديرية من الدرجة الأولى - وبعد رَصد وَسرد هذه النصوص نستمر في مجال الذكريات الجميلة مع الشيخ - أبو عبدالعزيز - التي تقادم عهدها، فما أحلى ذكريات الدراسة والفصول جامعة لنا، وكنا ننتهز فرصة الفسح بين الحصص لنتجاذب أطراف الحديث، وما دار في الحصة وشرح موضوعها ليستفيد بعضنا من بعض، فنستفيد من الزميل الشيخ عبدالمحسن أكثر .. -رحمه الله -، فهو يحرص على اغتنام الوقت واستثماره، وقد يحرم نفسه من الاستمتاع بدقائق الفسح التي شُرعت لصالح الطالب، ولكنه آخذ بنصيحة الوزير ابن هبيرة حيث يقول: والوقت أنفسُ ما عنيت بحفظه... البيت.. ولذا عاش متروياً من حلو رضاب العلوم النافعة - تغمّده المولى بواسع رحمته - كما لا ننسى تشريف حريملاء في تلك الحقب الزمنية لزيارة المعهد العلمي التفتيشية التربوية ، فهو يأتي في صورة معين للمعلمين لا مفتشاً، فتكون إيماءاته أقبل وأبلغ آنذاك لإبعاد الهيبة والوحشة عنهم، ولقد أحسن الشاعر حيث يقول: والنفس إن دعيت بالعنف آبية وهي ما أمرت بالرفق تأتمر ثم دخل منزلنا على عجل متذكرين أيام الدراسة السالفة وما جرى فيها من أحاديث شيقة ومن ملح الطرائف، متمنين عودة تلك الأيام الجميلة ولكن هيهات الرجوع: وليست عشيات الحمى برواجع عليك ولكن خليَ عيناك تدمعا! كما لا أزال متذكراً زيارتي له في منزله الواقع على شارع الخزان بالرياض منذ عقود من الزمن ...، وبعدما كثرت الأعمال وتضاعفت مشاغل الحياة لدينا لم تتجدد اللقاءات به إلا لماماً في بعض المناسبات، ولئن غاب عنا (أبو عبدالعزيز)؛ فإن ذكره الطيب باق في نفوسنا مدى الأيام، وقد ترك آثاراً طيبة وذكراً حسناً قبل رحيله عنا، وخلف ذرية صالحة بنين وبنات - تغمّده المولى بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنات، وألهم ذويه وإخوته وأبناءه وبناته وعقيلته - أم محمد - ومحبيه الصبر والسلوان.