مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    ماجد الجبيلي يحتفل بزفافه في أجواء مبهجة وحضور مميز من الأهل والأصدقاء    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    محترفات التنس عندنا في الرياض!    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    على يد ترمب.. أمريكا عاصمة العملات المشفرة الجديدة    عصابات النسَّابة    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    رقمنة الثقافة    الوطن    الشركة السعودية للكهرباء توقّع مذكرة تفاهم لتعزيز التكامل في مجال الطاقة المتجددة والتعاون الإقليمي في مؤتمر COP29    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    المالكي مديرا للحسابات المستقلة    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    أسرة العيسائي تحتفل بزفاف فهد ونوف    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 تصل إلى لبنان    أكبر مبنى على شكل دجاجة.. رقم قياسي جديد    استعادة التنوع الأحيائي    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    العريفي تشهد اجتماع لجنة رياضة المرأة الخليجية    أجواء شتوية    المنتخب يخسر الفرج    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    قراءة في نظام الطوارئ الجديد    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    الرياض .. قفزات في مشاركة القوى العاملة    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    الذاكرة.. وحاسة الشم    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    إرشاد مكاني بلغات في المسجد الحرام    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مخزون نفيس أثيري «تونسنا»: سالفونا عمروها فخلفهم البحر جاء للخضراء, وجاءت الشّمس والشواطيء, وعمرت فيها سياحة الثقافة
رقيم ودهاق أوطاننا العربية (3-3)

وقلنا لك يا أعرابي: إن على وجه هذه الأرض التي نقف عليها سويًا اليوم مشاهد وشواهد للأجداد السالفين, الخلائف المخلوفين, ومن أقوام سكنوا الأرض وعمروها بسواعدهم, وعرق جباههم المحموسة بمجد السنون المتعاقبة والأيام. أيامهم أنبتت لكن أخبارهم أنبثت, كما أثبتت البُحوثُ والدّراسات الحفْريّاتُ وأعمالُ التّنقيب منذ القديم. «تونسنا» مخزون نفيس أثيري وثر للمَنْاجم وللآثار القديمة (الحمّامات، المُنشآت المائيّة، المعابد ودُور العبادة، الأواني والخَزَفيّات وآلات الزّراعة والطبّ وغيرها من مستلزمات الحياة القديمة، في مختلف المجتمعات). هذه الأرض يا أعرابي شاهدة على قيام حضارات كثيرة لأقوام عمروا الأرض من «الفينيقيّين والرّومان والوندال حتّى الحضارة الإسلاميّة», فظفرنا بحضارات ومُنجزات تَرَاشحَت وأثْرت المخزون الحضاريّ لبلادنا, وأثرّت في تكوين الشّخصيّة القاعديّة الجمعيّة بيننا.
فترانا «يابن الجزيرة» اتّسمنا بالقَبُول وبالاختلاف وبالتّسامح والانفتاح, وتَعَدّدنا بالمكوّنات واللّبِنات بل وحتى في إتْقان اللّغات. ولعّلك أمام «جامع الزيتونة» و»جامع عقبة بن نافع» بالقيروان وغيرها رصدت خير مثالٍ على المنارات الأخلاقيّة والدّينيّة المنتشرة في أرجاء البلاد. ورصدت مناراتٌ تتجاوَرُ معها من الكنائس القديمة وبعض أديرة اليهود (الكَنيس)، هذا يا أعرابي ولّدَ لدينا تَعَايُشًا في أرضنا الخضراء, بين المسلمين وبعض الجاليات الدّينيّة الأخرى، تجمعنا المُواطنة وحبّ البلاد والإيمان بالتسامُح. كما أنك خلال رحلتك دخلت بيوت التونسيين, ودخلت بيوت الشِّعر كذلك البيت الذي أداره في البداية الشاعر الرّاحل محمّد الصّغير أولاد أحمد ثم تداول عليه شعراء آخرون, ودخلت الصالونات الأدبية وتجولت بين آثارنا ومهرجاناتنا. استمتع يا أعرابي في رحلة رقيمك ودهاقك في تونسنا مُتعدّدت المُناخات والتضاريس: البحر والجبال والغابات والسّهول والصّحراء، والمُناخات الطّبيعة ومُناخات الإبداع. فكُلّها عناصرٌ شرّعت أن يُطلق على تونس: الخضراء.
ملامح عن النقد الأدبي في تونس
لن نؤرخ للحركة النقدية التونسية فدون ذلك صعوبات جمة، لكن أقصي ما نبتغيه هو الإشارة إلى بعض الخصوصيات وتعيين بعض الإنجازات والتنبيه إلى المسوغات التي جعلت المنجز النقدي التونسي رائداً في الوطن العربي بما يجعلنا لا نجازف إذا ما أطلقنا عليه المدرسة التونسية في النقد. هكذا يبدأ أستاذ الأدب والشعر ومناهج النقد والأدب المقارن بجامعة سوسة الناقد التونسي الدكتور حاتم الفَطْناسي حواره معنا، مؤكداً أن أهم المحاولات النقدية العلمية المتميزة تخلقت في رحم الجامعة التونسية منذ نشأتها بأيدي نخبة مستنيرة من الأساتذة البناة، أذكر منهم د. صالح القرمادي, د. محمد عبد السلام, د. محمد فريد وآخرون. وقبلهم لا يمكننا تناسي جهود الأديب البشير بن سلامة ودوره المتميز في تأسيسه «لمجلة الفكر» صحبه محمد مزالي، فقد كانت محصنًا للنصوص الأدبية، شعرًا ونثراً، تبشّر بالأقلام الواعدة وتتيح لها فرصًا للتعريف بها، ولأن تكون مادة للتناول النقدي. كما كانت منبراً جاداً للمحاولات النقدية الثقافية أو الجامعية.
اللحظة النقدية الأهم
أما اللحظة النقدية الأهم في نظري فتتمثل في منجزات الجيل الثاني من شيوخ الجامعة، أقصد د. حمّادي حمّود, ود. عبد السلام المسدّي, ود. محمود طرشونة وآخرون. ممن مثّل منجزهم تأسيساً لكثير من المنطلقات النظرية التي تُرسّخ الدرس النقدي باعتباره علماً قائم الذات وليس مجرد محاولات قرائية انطباعية يغلب عليها الإنشاء والذّاتيّات. والحقيقة أن رائد النقد التطبيقي بامتياز إنما هو الأستاذ توفيق بكار, مُعلّم السؤال كما يحلو لي أن أسميه. لقد عمل الرجل انطلاقًا من تأثره بالنقد الفرنسي وبالفلسفة وباللسانيّات وبشتى العلوم والمعارف الواجب اكتسابها لدى الناقد الحق، واعتمادًا على إطلاعه الواسع على النصوص المؤسسة الوامضة في التراث العربي الإسلامي, عمل على الانكباب على المدونة الشعرية التونسية والعربية, وبشر بما سماه «عيون الحداثة» في الإبداعات السردية قصة ورواية, عبر قراءتها متنقلاً بذلك من مفهوم النقد بصرامته الأكاديمية إلى مفهوم أوسع وأشمل وأكثر مراعاة لما يحف بالنص الإبداعي، أقصد مختلف سياقاته «الايبستيميّة والسوسيولوجيّة والبسكولوجيّة» وغيرها. فكانت قراءاته بمنزلة الإبداع على الإبداع، دون السقوط في الانطباعية والاستسهال, فحقق بذلك معادلة صعبة عصيّة إلاّ على فحول النقاد, صرامة المفاهيم و»عملية التحليل» وأناقة العبارة، وهي لعمري ضرب من التدبر النقدي لا مثيل له في النقد العربي يضاهي دون مبالغة منجز الناقد الفرنسي الكبير «رولان بارط». أساسه السؤال، بما يحمله في طياته من الحيرة بكل أصنافها المعرفية واللغوية والأجناسيّة والحضاريّة، حيرة الحقل العربي المتمزّق بين قطبين: الشرق والغرب, القديم والحديث، الذات والموضوع, الأنا والآخر، تجلّي ذلك فيما أطلق عليه (المنهج الجدلي في النقد). إذ نهض الرّجل بتكوين لفيف من النقاد في شتي الاختصاصات دفعهم إلى الاهتمام بالنصوص الشعرية والسردية التونسية والعربية, فبرز من بينهم نقاد منظرون إلى جانب نقاد السرد ونقاد الشعر ونقاد المسرح. أذكر منهم: حمادي صمود, خالد الغريبي, منصف الوهايبي, أحمد السّماوي, الطاهر الهامي, محمد الخبو, نجيب العمامي, محمد الباردي, محمد الغزِّي, محمود طرشونة, عبد العزيز شبيل, عمر حفيّظ, عثمان طالب, النّاصر العجيمي, بوجمعة بوشوشة, محمد صالح بن عمر.. ممن عملوا على النصوص تحليلاً وتفكيكاً وتأويلا ًبتفاوت يضيق أو يتسع بين من يتمسك بحرفية المنهومن يخلق مسافات شاسعة بين العلم والقراءة والاجتهاد.
واختتم «الفَطْناسي» حديثة للثقافية: ولئن رأي البعض في المنجز النقدي التونسي مجرد إرهاصات بمدرسة فأنا أعتبر مفهوم المدرسة لا يتمثل في خلق منهج نقدي بديل مستحدث, بل يَكمُن في الفلسفة الجامعة للنقاد وأغلبهم من الجامعيين، أعني التوجه العام فكلهم أو جلهم يصدر عن قناعة راسخة هي الإيمان بالتلازم بين التراث والحداثة تلازم الوجه والقفا, وفي استثمار العقل البشري في كل مجالات المعرفة الإنسانية وحتى الدقيقة منها كعلم الأجنة والخلايا «معاول وأزاميل», آلة من آلات القراءة النقدية. ولعل ما يعتقده البعض «هجانة» في معناها السلبي أعتبره عنصر إثراء ومصدر إغناء للقراءة النقدية, بل سبباً من أسباب تميز كثير من النقاد التونسيين وإشعاعهم مشرقا ًومغرباً, فلا غرابة، ولا ضير أن يتخلّق النقد في الجامعة شريطة أن يفيض عن رحابها ويخرج من مسطرة التنميط في الدرس الأكاديمي وصرامته ليلج الساحة الثقافية على رحابتها ومختلف مسويات التقبل فيها، فلا قراءة دون تَمثُّلٍ واعٍ للموجود لفكر «الآخر» وعلمه ودون اندقاقٍ في نصوصنا الوالدة أو دون شوق الناقد وتوقه إلى قراءة «عالمة», وهي في الوقت ذاته قراءة «عاشقة», تعشق النص وتعشق ذكاء التناول والتحليل, وتكتشف لمجاهل التأويل. فما دام النص الإبداعي يضارع نص الحياة والوجود الإنساني, مَقدورٌ للناقد أن يكتشف أو يسعي إلى الإمساك «بنكهة النص» أو متعته, حتى وأن كانت الأحكام سلبية أو انتقادية.
الصحافة التونسية تاريخ ومحطّات
وصف الكاتب والإعلامي «د.رشيد قرقوري: الصحافة الأدبية في تونس في فترة الثلاثينات، بأنها تعد بمنزلة النتاج المتنامي للوعي لدى عدد من رواد الفكر والفن في تلك الفترة, وأن هذا الوعي والتنامي تجلى من خلال أهمية الدفاع عن الهوية التونسيّة، أمام محاولات طمسها خلال فترة الاستعمار الفرنسي. وأشار أن من أبرز تلك الأسماء التي ظهرت في تلك الفترة: محمود قبادو, وابن أبي ضيف, ومحمد السنوسي, وسالم بوحاجب. وللدور الذي لعبته جماعة «تحت السور» من أمثال كرباكة والدوعاجي والخميسي ومحمد بن فضيلة, من خلال «نقد المجتمع», عبر نتاجات شعرية وأدبية وغنائية ومسرحية رائدة, رغم انتشار ما أسماه «بثقافة المشافهة والشعبية», التي تعتمد السرد و»الفداوي» بالمقاهي. في ظل غياب شبه كلي للثقافة المكتوبة.
وقال: إن (مشروع الصادقية) الذي أسس له خير الدين باشا أوائل القرن الماضي يعد خطوة مهمة على درب المقاومة الفكرية للمستعمر, إلى جانب إنشاء (المدرسة الخلدونية) وجمعيات أخرى سعت إلى تطوير البرامج التعليمية في اتجاه تكريس الثقافة الوطنية, فظهرت إبداعات أبو القاسم الشابي والطاهر الحداد, لترفض الواقع مثلما رفضته الحركة الفكرية في مصر في الفترة نفسها بظهور إنتاجات طه حسين وعلي عبد الرازق وغيرهم, ممن جوبهت أعمالهم بالرفض إلى حد الاضطهاد.
ويعتبر «القرقوري» أن الصحافة الأدبية فترة الثلاثينات، شكلت تيارًا إبداعيًا غذته الصراعات والخلافات بين النخبة المثقفة التي ترجمتها إلى إنتاجات إبداعيّة، مزجت بين الصحافة والأدب. فسارع مبدعون من أمثال بيرم التونسي, عثمان الغربي, عبد الرحمان الكافي, عبد العزيز العروي.. إلى نقد الواقع, بأسلوب ساخر وعميق في الآن ذاته, مما أثّر لاحقًا على الثقافة المعاصرة.
وأضاف في هذا الصدد إلى أن جيل الثلاثينات مهّد للحداثة الفكريّة والثقافيّة التي تجسدت إثر الحرب العالمية الثانية بإصدار مجلاّت مثل «الثريا» والمباحث», لمحمد البشروش. وبروز كتابات محمود المسعدي, علي البلهوان, محمد بن ميلاد, الصادق مزيغ وغيرهم, من الذين اتفقوا في مؤلفاتهم على الحداثة والانفتاح على الثقافة الغربية مع التجذّر في الهوية التونسية قبل أن يواصل جيل «ما بعد الاستقلال» المسيرة الفكرية بأعمال مشابهة على غرار مجلة «الفكر» لمحمد مزالي والبشير بن سلامة, وأيضًا مجلة «الحياة الثقافية» وما تضمنتها من أقلام لأهم رواد الحركة الثقافية المعاصرة إلى حدّ الآن.
وتابع: لقد عرفت تونس في هذه السنوات الأخيرة انفتاحًا إعلاميًّا لم تشهده طيلة تاريخها، فتعددت الأصوات الإعلاميّة بتعدّد انتماءاتها السياسيّة ومشاربها الفكريّة وخرجت نهائيًّا من مرحلة الصوت الواحد، كما يؤكد المختصون.
الموسيقى التونسية مسارات ومنعطفات
وللحديث عن الحركة الغنائية الفنية التي تنوعت وتأثرت نتيجة عوامل ومؤثرات عدة, وشكلتها محطات ومنعطفات فارقة في تاريخ الممارسات الموسيقية, إذ يعد قدوم زرياب منعرجًا حاسمًا لتوجهات الفن الموسيقي في ترسيخ طرق المدرسة العربية القديمة (العودية) التي كان لها دور جوهري في إنشاء المدرسة الأندلسية, ولتسليط الضوء حول هذه الحركة
التقينا الباحث في العلوم الثقافية, ومدير قسم التكوين الموسيقي بالمعهد العالي للموسيقى بسوسة, الدكتور «طارق بوقطاية» الذي قال: إنه من الضروري التوقف عند حركيّة التّواصل الحضاري والثّقافي التي مرّ بها المجتمع التونسي والموسيقى التي صاحبته بين مختلف الأجيال والحقب التّاريخيّة, والتي أكدت أن الممارسات الموسيقية رهينة لتعدد الثقافات والحضارات وحركيتها, لذلك نجد أن مقوّمات الخطاب الموسيقي في البلاد التونسيّة تشكلت من مختلف الثقافات الموسيقيّة والحضارات (العربيّة, الإسلاميّة, والأمازيغية البربرية, والفينيقية والهند, وفارس, واليونان..), التي تم تطويعها مع النغمات والإيقاعات المحلية مما حتّم انصهار مجمل العناصر المحلية والدخيلة.
قدوم زرياب عرج بالموسيقى
لقد مرت البلاد التونسية بالعديد من المحطات والمنعطفات الفارقة في تاريخ الممارسات الموسيقية، لكن قدوم (زرياب) يعتبر منعرجًا حاسمًا لتوجهات الفن الموسيقي في ترسيخ طرق المدرسة العربية القديمة (العوديّة), التي كان لها دور جوهري في إنشاء المدرسة الأندلسية. كما كان للاختلاط الجلي بين حضارتي تونس والأندلس دورًا مهمًا في إثراء الموسيقى التونسية خاصة الموشح فانتشرت التواشيح الأندلسية المسماة عندنا «بالمألوف» وألّفت على منوالها بعض الألحان التونسية المسماة «أشغال وأزجال» وظهر القصيد الزجلي والزجل الحضري والزجل الهلالي المهذب المعروف «بالفوندو» والغناء الزنداني, وتراوحت الأغاني بين المدائح الصوفية والأذكار وإنشاد التهجد بالجوامع والزوايا وبين الغناء في الولائم والأفراح من نوع العوادة أو «الربوخ» وغناء البوادي.
أما الأتراك فقد ساهموا في إدخال بعض القوالب الآلية (كالبشرف والشنبر والسماعي) وأخرى غنائية كالشغل, إذ لاح هذا التثاقف التركي بتطعيم الطبوع التونسية ببعض المقامات الشرقية مثل (الحجاز كار والشهناز والنواثر) وبعض الإيقاعات في الموشحات الغنائية «كالجرجنة والنوخت والإقصاق», كما برز ذلك في أعمال الشيخين أحمد الوافي وخميس الترنان، التي جذبت اهتمام التونسيّين وابتدعوا على شاكلتها العديد من البشارف والسماعيات و»اللونغات» في الطبوع التونسية. أما المدرسة المشرقية فقد شغلت الفضاء السمعي التونسي بظهور الأسطوانات المشبعة بالموشحات والأدوار والقصائد والأغاني وسائر قوالب الغناء, وذلك بعد قدوم الفنانين المصريين كأحمد فاروز والمطرب المصري زكي مراد وعازف القانون محمد عبده صالح والسّيد شطا.
مشددًا على أنه بالتوازي مع كل ذلك، كان لوفود العديد من اللاجئين اليهود من ليبيا كعازف العود «ريدو» والمطرب «موني الجبالي» والأخوين «برامينو ورحمين بردعة», دور في ظهور لون جديد من الأغاني يتمثل في الأغنية المرزكوية التي عُرفت باسم الطرابلسية, إذ تغنى اليهود بجميع الألوان الغنائية العربية «كالمالوف» والأغاني الشعبيّة والبدويّة والإسلامية والاحتفالية, كأغاني الختان والأعراس بصوت المطرب «راؤول جورنو». أما أكثرها شهرة وشعبية فكانت بصوت الفنان المطرب الملقب ب»الشيخ العفريت», وأصبحت هذه الأغاني من التقاليد الغنائية في تونس التي كانت وما زالت تردد إلى اليوم.
التأثير الأوربي على موسيقى تونس
وعن التأثير الأوروبي على المشهد الموسيقي التونسي قال «بوقطاية»: تجلى التأثير بعد تكاثر الجاليات الغربية من فرنسا وإيطاليا الذين ساهموا في تأسيس فرق صغيرة لموسيقى الصالون, إضافة إلى تأسيس الفرقة السمفونية «التيكان» روادها من الأجانب الأوروبيّين. كما ساهمت الجمعيات الموسيقية والفرق النحاسية في إدخال آلات موسيقيّة غربيّة على الآلات الموسيقيّة العربيّة مثل آلة (الكلارينات) و(الأكرديون) و(السكسفون) وآلة البيانو, فساهم كل ذلك في ظهور أغانٍ جديدة مزدوجة اللغة تسمى الأغنية «الفرنكو عربية» أو الأغنية «الفرنكو آراب» كأغنية الفنان الهادي الجويني (Chérie) حبيتك.
وأضاف: كما انبثق عن توصيات مؤتمر الموسيقى العربية بالقاهرة التي سعت للحفاظ على التراث الموسيقي وخصوصياته والتصدي لمختلف التيّارات الساعية لطمسه وتشويهه إنشاء المعاهد والمؤسّسات, تأسيس الرشيدية في أبريل 1934م, لتشكل محطة بارزة في المشهد الموسيقي التونسي لاستقطاب ما تبقى من الموسيقى الكلاسيكية التونسية (المالوف) وتكوين ثلة من الباحثين الموسيقيّين, إذ أشرف على هذا المعهد ثلة من الموسيقيين أمثال محمد التريكي وعلي الدرويش والشيخ خميس الترنان, ثمّ انضم إلى هؤلاء بعض التّلاميذ مثل صالح المهدي والطّاهر غرسة ومحمّد سعادة. كما أدّى تكوين أوّل فرقة موسيقيّة بالإذاعة التّونسيّة سنة 1957م, إلى تعزيز هذا المشروع عبر استقطابها لأعلام الموسيقى التابعين للمعهد الرشيدي كعلي الرّياحي والهادي الجويني وقدّور الصرارفي وشافية رشدي وصليحة وشبيلة راشد.
وبعد الاستقلال وبخاصة في فترة السبعينات حتى اليوم، كان للتجارب الموسيقيّة بمختلف أشكالها وألوانها دور ريادي في إثراء المدوّنة الإبداعية الموسيقيّة التونسيّة, إذ ساهمت في إثارة حراك فني ونقدي أسّس لمرحلة فنية مهمة في الموسيقى التونسية الحديثة. فبرزت مؤلفات جديدة شكلاً ومضمونًا مثلت نقلة نوعية في مسار الممارسات الموسيقية بعد فترة أحمد الوافي وخميس الترنان وجماعة المعهد الرشيدي. فتميزت أعمال محمد سعادة وأحمد عاشور وأنور إبراهم ومحمد زين العابدين بالتحديث والتجديد والتجاوز. كما ظهر عديد المطربين التونسيين مثل الفنان لطفي بوشناق وصابر الرباعي والمرحومة ذكرى محمد والفنانة لطيفة العرفاوي وغيرهم من الفنانين الذين أثثوا مختلف المحطات الفنية داخل الوطن وخارجه. واليوم تمثل مدينة الثقافة المحدثة مؤخرًا فضاًء فنيًا متميزًا ساهم في إثراء المشهد الثقافي في تونس وفي خلق حراكًا موسيقيًا فعالاً وواعدًا ضمن القطب الموسيقي «الأوبرالي».
الحركة المسرحيّة: ريادةٌ وثراء
تشهد مسارح قرطاج وبلاريجيا وجكتيس ودقة والجم وسبيطلة على أن المسرح رابع الفنون متجذر في تاريخ البلاد التونسية منذ العصور القديمة. والحركة المسرحية الوطنية التي انطلقت فعليًا يوم 26 ماي 1909م, تاريخ أول ملامسة لممثلين تونسيين لخشبة المسرح من خلال المسرحية التونسية المصرية «صدق الأخاء» التي تم إعادة تقديمها في 26 ماي 2009م, ضمن تظاهرة مسرحية جديدة بعنوان «ليلة المسرح التونسي.
ويعكس ذلك تأصل الفعل المسرحي في تونس حيث تعد من البلدان القلائل في العالم العربي وإفريقيا التي تدعم الإنتاج المسرحي بشكل يغطي تقريبًا كامل نفقاته بالرغم من أن قطاع المسرح يعد قطاعًا غير حكومي في أغلب نسبته كما ألغيت الرقابة على النصوص المسرحية. وأكد الدارسون لتاريخ المسرح التونسي أن الشغف بالمسرح كظاهرة عمت بلدان العالم هو الذي جسد النواة الأولى التي أسست لحركة مسرحية تونسية حديثة في مطلع القرن العشرين.
وكان للفرق المسرحية الأجنبية والعربية التي انطلقت في تقديم عروضها منذ سنة 1902م, على ركح المسرح البلدي بالعاصمة أول مسرح تونسي حديث ثم على مسرح روسيني الذي تأسس سنة 1903م, التأثير الكبير على جمع من الشباب الشغوف بهذا الفن.
الجوق التونسي.. المرأة تقتحم المسرح
وبقدوم فرقة «الجوق المصري» لعرض عدد من الأعمال المسرحية في تونس تم الاتفاق بين الطرفين على تكوين «جوق تونسي مصري»، فمثل هذا الاتفاق نقطة انطلاقة الحركة المسرحية التونسية. وتميزت فترة الأربعينات بانتشار الفرق المسرحية الجهوية, انطلق أولها من صفاقس وكان لها الأثر الكبير في إثراء النهضة المسرحية التونسية, إذ برزت أسماء على غرار خليفة السطمبولي وشافية رشدي التي ولئن لم تكن أول تونسية تصعد على الركح, فإن أثرها كان جليًا من خلال تأسيس جمعية «الكوكب التمثيلي» التي قدمت عديد الأعمال المسرحية الناجحة. كما شهدت الفترة نفسها أيضًا بلورة مفهومين أساسيين أولهما الاحتراف المسرحي والدعوة إلى تعليم المسرح, وثانيهما إقرار التوازن المسرحي من خلال إقحام المرأة بشكل فاعل في الأعمال المقدمة، نذكر من بينها ما بادر به المنصف شرف الدين من خلال فرقة «المسرح الحديث» من محاولة تجاوز لهذه المعظلة بتقديم حوالي عشر ممثلات دفعة واحدة شاركن في مسرحيات مثل «عيطة وشهود ومدرسة الأزواج».
وفي الخمسينات ظهرت أول فرقة محترفة في تونس هي (الفرقة البلدية) بتونس العاصمة التي أدارها حمادي الجزيري العائد وقتها من باريس، بعد دراسته أكاديميًا للفن المسرحي, تلاه الفنان عبد العزيز العقربي, لتعرف الفرقة بعد ذلك أوج عطائها مع علي بن عياد العائد هو الآخر من باريس برؤية متطورة للمسرح ورغبة في إخراجه من محليته الضيقة جسدها فعليًا أبان الاستقلال، أي بالتوازي مع الدور المهم الذي لعبه هذا الفن في الحركة السياسية الجديدة من أجل بناء دولة مستقلة وحديثة. وفي الستينات برزت فرق مسرحية جهوية محترفة تحولت إلى مراكز للفنون الدرامية والركحية أثرت المسرح التونسي, غير أنه لم يظهر المسرح الخاص بشكله الجديد المحترف إلا في نهاية الستينات وبداية السبعينات.
أما في الثمانينات فقد برز تدخل الدولة في إثراء المؤسسات المسرحية من خلال بعث المسرح الوطني التونسي سنة 1983م, الذي أداره حينها الفنان المنصف السويسي وتلاه إلى الآن الفنان محمد إدريس الذي وفق هو الآخر في أن يؤسس لتجربة مسرحية مهمة, تفرعت إلى مشارب فنية عدة من بينها السرك من خلال تكوين المدرسة الوطنية لفنون السرك. كما برز في الفترة نفسها المسرح المدرسي والمسرح الجامعي ومركز الفن المسرحي الذي يحتضن التربصات إلى جانب مسرح الطفل وانتشار المهرجانات المسرحية، ومن أبرزها «أيام قرطاج المسرحية» التي اتخذت بعدًا عربيًا إفريقيًا, ساهم في إشعاع تونس كبلد يحترم المسرح ومبدعيه ويقدم أعمالاً تثري المدونة العالمية للفن الرابع. كما أفرزت عراقة المسرح التونسي توجهات مسرحية متعددة حيث يذكر المختصون في المسرح على امتداد المائة سنة تجارب في المسرح التراثي والمسرح الجديد والمسرح الفردي أو ألوان «مان شو». ومن أبرز وجوهه في مجال الكوميديا الفنان لمينا لنهدي ومسرح الجماليات.
المهرجانات والمؤسّسات الثقافيّة «أيام قرطاج السينمائية»
في تونس، منذ الستّينات من القرن الماضي حَرَكَةٌ ثقافيّةٌ متميّزة ما فَتِئَتْ تتطوَّرُ وتتأصَّلُ وتصبحُ أكثر ثراء وحيويّة، وخيْرُ مثال على ذلك تأسيس «أيّام قرطاج السّينمائيّة», التي أصبحت اليوم من أهمّ المنابر في إفريقيا والعالم، مُلتقًى للتجارب السينمائيّة الواعدة ومحضنًا للمشاريع والأفكار المجدّدة التّقدّميّة وصَوْتًا للتّجريب ومنبرًا للتّجديد، فاشتدّ عُودها وأصبحت قِبْلَةً لكبار السّينمائيّين في العالم وشوقًا لتبادُل وترويج الأفلام. وفي تونس كذلك مؤسّسات ثقافيّة مرموقة كالمجتمع التونسيّ للآداب والفنون والعلوم والترجمة (بيت الحكمة), وهو مؤسسة أكاديميّة علميّة تهتمّ بهذه الحقول المعرفيّة وتعقد النّدوات البحثيّة وتصدر البحوث والدّراسات في مجالات اختصاصها، وتضمّ خيرة الكفاءات في كلّ ميادين البحث. في تونس أيضًا مراكز ثقافيّة مرموقة ك»مركز الموسيقى المتوسّطيّة، والمركز الثقافيّ الدولي بالحمّامات وحَشْدٍ من مراكز الفنون الرّكحيّة والدّراميّة منتشرة داخل البلاد تعي الإبداعات وتهتمّ بإنتاج المسرحيّات وفنون الفرجة والدّراما, إضافة للصَرْح الثقافيّ الكبير «مدينة تونس الثّقافيّة» وهي مؤسسّة ضخمة تضمّ بيتًا للشعر وبيتًا للرّواية ودار أوبّيرا ومسارح ودور سينما ومعارض للفنون ومراكز بحوث حول الثقافة والإنتاج الإبداعي.
المتاحف والآثار جذب للسياحة
أما في قطاع المتاحف فيوجد في تونس شواهدُ أثريّة ومتاحف كثيرة أهمُّها (متحف باردو) وأخرى صغيرة أو متخصّصة في العادات والتقاليد أو في حِقبةٍ تاريخيّة مُعَينة (كمُتحف الفنّ الإسلاميّ والمخطوطات برقّادة بالقيروان وغيرها...). هناك أيضًا متاحف الفسيفساء بسوسة والجمّ ونابل (المسرح الأثري بالجمّ), إضافة إلى لمعالم وآثار للفينيقيين بضاحية قرطاج (السّواري، المعابد، حنايا الماء وغيرها ...). هذا التراث الثري الذي اختزلناهُ، يتعايش مَعَ شواهد الحاضر وإنجازاته، ممّا أغرى بازدهار حركة سياحيّة تقوم على البحر والشّمس والشواطئ السّاحرة من ناحية، وعلى السّياحة الثّقافيّة من ناحية أخرى.
احتفال الألوان والأضواء
ليس سهلًا على المتابع للفن التشكيلي التونسي لمحطاته وتاريخه أن يلمّ بكل مفرداته وحركاته ومدارسه وأعلامه إلا للمتخصصين. الفنان التشكيلي ونقيب الفنانين التشكيليين في تونس»عمر الغدامسي» لخص بهذه العجالة ووصفها: بهبة المتوسط, لانصهارها بكل الحضارات التي مرت بالبحر الأبيض المتوسط, فهي مركز الحضارات القديمة والمؤسسة للفكر الإنساني. ونتيجة لهذا فقد تراكمت التأثيرات التي تطبع اليوم مايسمى الخصائص الثقافية والتراثية في حياة التونسيين, بما في ذلك الموروث البصري الذي طالما شكّل مادة بحث وانطلاق في تجارب عديد من الفنانين التونسيين ونذكر: (الفُسيفُساء الرومانية, فنون الخزف في العهد الفاطمي, الأندلسي, فنون الزخرفة الإسلامية).
مؤكدًا أن بدايات تشكُّل المادة بمفهومها الحديث يعود لفترة «الحماية الفرنسية», إذ نُظّم أول صالون فني شارك فيه الرسامون الفرنسيين والإيطاليين, ثم تتالت المعارض بإشراف المستشرقين. وتكونت جماعة مدرسة تونس وصولًا على التسعينات وما بعدها. وحَريّ بنا الإشارة لأعمال «عبدالرزاق السّاحلي, عبدالعزيز القرجي ونجا المهداوي .. مختتمًا القول: بأنه نتيجة لتفاعل العصاميون مع خريجي معاهد الفنون الجميلة, وتعايش الرسامون والنحاتون والفوتوغرافيون فقد برزت الحركة التشكيلية التونسية بمنجزات فنية ومُجسّمات ولوحات, بعد خروج الفن إلى الشّارع وتحوله لمراسم وجداريات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.