لم يكن الذي بين الأستاذ محمود محمد شاكر والدكتور طه حسين المتنبي فقط، فالصراع قديم منذ أول يوم كان الأستاذ محمود شاكر في كلية الآداب كطالب والدكتور طه أستاذ أكاديمي بالجامعة، ومنهج ديكارت في الشك الذي أثاره الدكتور في الشعر الجاهلي سنة 1925م ومحاضراته في ذلك التي كانت متطابقة في نهجها لمقالات مرجليوث كانت الشرارة التي بدأت والتي يعرفها القاصي والداني ثم أعقبها مساجلات حتى وصلت فيما بعد إلى كتاب (مع المتنبي) للدكتور طه والذي كتبه سنة 1937م أي بعد كتاب الأستاذ محمود شاكر بسنة (المتنبي) الذي نشره على حلقات في مجلة المقتطف سنة 1936م وكلاهما كانا بمناسبة مرور ألف عام على وفاة أبي الطيب المتنبي. كتب الأستاذ محمود شاكر في صحيفة البلاغ في أواخر سنة 1937م سلسلة مقالات (بيني وبين طه) واقتصر في ذلك كله على موضوع المتنبي وألفيّته التي احتوت سيرته الذاتية كمقارنة موسّعة بين كتابه الذي يعتبر فريداً من نوعه آنذاك لما خلص فيه من استنتاجات لم يسبقه إليها أحد من قبل وأثار ضجة وردودًا في الأوساط الأدبية بين موافق ومعارض بل نتائج لم تكن متوقعة إثر دراسة مستفيضة في سيرته لم تخطر في بال من كتب عن المتنبي من قبل كابن جني والربعي وابن العديم وابن عساكر والمقريزي وغيرهم وحتى شرّاح ديوانه كالواحدي والمعري والتبريزي والكندي (فبيني وبين الدكتور الجليل أمران جليلان أيضاً: أولهما ما يقوله هو عن المتنبي، وآخر الأمرين ما يقوله كتابي الذي نشر في يناير سنة 1936م وكتابه الذي نشر في يناير سنة 1937م) وكان يريد في مقالاته من ذلك تعرية كتاب الدكتور طه والرد عليه فيما قاله في كتابه مع المتنبي وأنه إنما سرق كل تلك الأفكار التي خرج بها والتوى بعلة الهذيان والخواطر الفوضوية التي لا تدل على منهج علمي لباحث حتى لا يلومه أحد عياناً على ما ارتكبه من أخطاء واختطاف أفكار من غيره حيث إنه فطن لما في كتاب الأستاذ محمود من نتائج كانت غير طبيعية بالنسبة لدراسات قديمة كانت للمتنبي تواترت وقد أعطت نفس النتائج تقريباً وإن استحوى كثير من التراجم والشرّاح على معلومات مدوّنة استعان فيها الأستاذ محمود ليدلل بها على استنتاجاته وتكون رِدفاً لما كان يرمي له من حقائق كانت غامضة في حياة المتنبي كصباه، ونسبه، ونبوّته المزعومة، وحب خولة أخت سيف الدولة، وترتيب القصائد ترتيباً تاريخياً، وشرح وتفسير لبعض أبياته الغامضة التي كانت مثار جدل. ولا شك أن رد الأستاذ محمود كان والدكتور طه حيٌ يرزق (فهذا كتاب كتبته قديماً في صحيفة البلاغ بعنوان «بيني وبين طه» وكان غرضي أن أكشف الحقيقة التي انطوى عليها كتاب الدكتور طه حسين «مع المتنبي» كتبتها يومئذ والدكتور طه حسين حيّ بعد). ولم يرد الدكتور طه على تلك المقالات ولا نعلم لمَ؟ هل كانت تلك المكانة الرفيعة في الوسط الثقافي والأكاديمي والإعلامي العربي التي حظي بها الدكتور جعلته يأنف عن الرد؟ أو علمَ بحقيقة الأمر وسكت كعنوان الاعتراف بالخطأ؟ وأعتقد أن الثانية أقرب واللبيب بالإشارة يفهم فقد أغلق الأستاذ محمود شاكر عليه كل المنافذ التي قد يفلت منها الدكتور ليحتال بذكائه وفطنته على أن نتائجه التي توصل إليها من دراسته تختلف عما توصل إليه الأستاذ شاكر ولكن تبقى النوافد كما هي لم تتغير أماكنها وإن تغير لونها والدكتور طه كأقرانه الكبار كانوا شحيحي الاعتذار ولمن في قدرهم ومكانتهم فقط والأستاذ محمود كان آنذاك في شرّة الشباب بعد لم يبلغ ما بلغه في أخرياته! ** **