ومع هذا كله فقد أوغل الأستاذ محمود في نقد كتاب الدكتور طه حتى أدرك غايته في كل موضوع الكتاب كما حدث أيضاً مع الدكتور عبدالوهاب عزام الذي جاء كتابه (ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام) بعد كتاب الأستاذ محمود شاكر بسبعة أشهر! وقد تغافل عن ذكر الأستاذ محمود حين استشهد بكلامه كثيراً في عرض الكتاب فأفرغ ما في سخيمة نفسه حينما التقى به عند الزيات صاحب مجلة الرسالة وكان هو والدكتور طه في قفص الاتهام بالسرقة إلا أن الدكتور طه زاد عليه بالتقليد فكان الاتهام صريحاً وتورية وذلك أنه بدأ في كتابه بشواهد من سرقات الفرزدق التي اغتصبها من الشاعر الشمردل وذي الرُّمة جهاراً نهاراً وتحت أعين الشاعرين وقد نزلا عن ذلك مكرهين خوفاً من سلاح الهجاء الذي يملكه الفرزدق ولا يملكانه وهذه كناية عن قوة ومكانة المغتصب الذي لم يتهيب ولم يخاف السرقة بهذه الطريقة وهو في هذا إنما يعني الدكتور طه الذي شبهه بالفرزدق في جسارة وجرأة وذلك حين يقول عنه في ذلك الوقت: (كان في قمة مجده الذي حازه بالضجة التي ثارت حول كتابه «في الشعر الجاهلي» وأنه كان يومئذ يروح ويغدو على ذراها يملؤه الزهو وتستخفّه الخيلاء ويميد به العجب). في كتاب الأستاذ محمود (فساد حياتنا الأدبية) كانت هناك مقالات بعنوان (كتابان في السطو) وأحدهما كتاب الدكتور طه (مع المتنبي) وهو اتهام صريح بالسرقة من عنوانه ولذلك أحب أن يُفرغ ما في جعبته وما كمن في صدره ثم نفثه في مطلع مقالته بقوله (أما الكتاب الثاني ..... أما الكتاب الثاني ... أما الكتاب الثاني) كررها ثلاث مرات وهذا دليل ما وصل إليه شدّة الغضب حتى درجاته القصوى عند الأستاذ محمود شاكر، بل اعتقد أنها كانت معركته التي نزل فيها بكل أسلحته وقوته ممَ حدا بعبدالقادر حمزة باشا صاحب البلاغ حين قرأ المقالة الأولى أن يقول له: لماذا كل هذا العنف؟! ثم عاود القول: ألا تخاف لدد الدكتور طه؟! والأستاذ محمود شاكر معروف بحدته التي تبلغ أحياناً حد الشطط فمن يملك ذلك فلا يبالي بشيء آخر حين يكون الحق معه وألا يخاف ولا يتردد وهو بعد ليس لديه ما يخاف عليه من الدكتور وهو في أول عمره الأدبي والثقافي بينما الدكتور قد بلغت شهرته الآفاق وحلّق به المجد صدر السماء فلا غرو إن غلب كعادته ولا مُلامة على محمود شاكر إن خسر جولته فقد شفى ما في نفسه من نتآت جرح قد يزداد نزيفه مع مرور الزمن ، وفي اعتقادي أن الدكتور آثر الصمت كحيلة ارتآها لكي يجعل القارئ في حيرة من أمره فلا يحكم عليه بسوء النية ولا يساير الأستاذ محمود في دعواه لكونه أحد تلامذة الدكتور، ولو رد عليه بالمثل لظهر للعيان ما كان مختبئاً خلف الحجب ولربما يوقعه لسانه فيما لا يحمد هو عقباه ، فهل كان الدكتور طه يعتمر في قلبه ما قاله الفرزدق من قبل: (خير السرقة ما لا يجب فيه القطع)؟ مع كل ذلك العنف من الصراع العقلي لم ينس الأستاذ محمود شاكر فيما بعد أن يثني على الدكتور طه من أجل ألا يقال بأنها إحنّات ماضية وترات قد أزف موعدها وشفى غليله منها، ففي لقاء سنة 1975م أجراه الأستاذ سامح كريم وجه إليه سؤالاً أثار في نفس الأستاذ محمود ذكريات مضت وحوادث اندثرت: (ما هو دور الدكتور طه حسين في رأيك؟!) كتب الأستاذ محمود على أثر ذلك مقالة في مجلة الكاتب بعنوان (كانت الجامعة... هي طه حسين) وقد حاول الأستاذ فيها أن يطري الدكتور وأن يحمد دوره وينتشله من غياهب الظن الذي لازم كثير من الناس عنه: (لقد لقي طه حسين يومئذ ما لقي، ونسب إليه ما أقطع بأنه بريء منه والدليل على براءته عندي هو منذ عرفته في سنة 1924م إلى أن توفي سنة 1973 .....) ثم أسهب في ذكره وتقريظه حتى نهاية المقالة. ** **