بدعوة من المركز الإقليمي لحفظ التراث الثقافي في الوطن العربي (إيكروم - الشارقة) شاركت بورقة عمل الأسبوع الماضي في (ملتقى التراث والمدن في الدول العربية) بمدينة الصويرة التاريخية بالمملكة المغربية عن إدارة مواقع التراث العمراني في المملكة العربية السعودية (جدة التاريخية كحالة دراسية)، وتناولت خلالها جهود هيئة السياحة والتراث الوطني في البناء المؤسسي والتنظيمي للضوابط المعمارية والعمرانية التي تنظم سياسات التعامل مع مكونات التراث العمراني بمستوياته المختلفة، وكيف استطاعت أن تستعيد التحكم بذلك الإرث الحضري ذي القيمة الاستثنائية. الحقيقة إن الإشادة التي لقيتها هذه «الأنظمة والتشريعات» المكانية التي أطرها نظام الآثار والمتاحف والتراث العمراني المقر عام 1436ه تؤكد أن المملكة كانت سباقة ومبادرة في إعداد وإصدار قرارات تاريخية، مكنت من التحكم بإدارة وتنمية هذه المواقع والمحافظة عليها وفق منظومة متكاملة، ليس باتجاه التراث العمراني فحسب، بل على مستوى التراث الوطني بمساراته المختلفة. لم يفاجئني أيضًا التقدير الكبير من قِبل الحضور لجهود الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، واطلاعهم على ما قام ويقوم به من عمل دؤوب في مهمة تقديم التراث العمراني بنسخة جديدة ومطورة كمنتج تنموي بعد أن كان متواريًا لسنوات مضت، لكن السؤال الذي طُرح بأهمية بالغة: «كيف ستستثمر» هذه الأنظمة والتشريعات التي لم تكن لترى النور لولا سلسلة من الأبحاث والأعمال والخبرات والتجارب التي حدثت في أروقة الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني وشركائها، والإصرار الكبير على إحداث نقلة تنظيمية نوعية في هذا المجال؟ الإشارة هنا إلى الحاجة الملحة لبعث (إرادة جماعية)، تشترك فيها القطاعات الحكومية والخاصة والمجتمعات المحلية لتفعيل هذه الأنظمة، والتعامل معها بجدية تامة لتعظيم الاستفادة منها. الأهم من ذلك تولد الوعي الكافي بأن أي حديث اليوم عن المحافظة على الهوية المحلية السعودية خارج إطار هذه الأنظمة والسياسات والتشريعات هو عمل غير منهجي، ومضيعة للوقت، وهدر للجهود والمقدرات الوطنية الواجب علينا صونها والدفاع عنها مهما كانت التحديات والمعوقات؛ فمرحلة التأسيس عادة ما تكون هي الأكثر كفاحًا. في جولتي داخل أروقة مدينة الصويرة العتيقة، أو (موغادور) المطلة على الساحل الأطلسي، بكل ما تحمله من مخزون تراثي وثقافي عريق، قابلت بعضًا من سكانها الأصليين الذين لم يبرحوا مدينتهم منذ أن عرفوها. ما استنتجته من حواري معهم أن بعض أهالي المدينة كانوا قلقين في البداية من التوجه لتسجيل مدينتهم التاريخية على لائحة التراث العالمي خوفًا من قيود تنظيمية، قد تطرأ وتضر بمصالحهم وأملاكهم، إلا أنه بعد تسجيلها في اليونسكو بوصفها تراثًا ثقافيًّا إنسانيًّا عام 2011م حدث تحوُّل كبير على مستوى الاهتمام من الحكومة والمنظمات الدولية، وارتفاع عدد الزوار والقيمة السوقية للعقارات وجذب الاستثمارات، وشكّل ذلك حراكًا استثنائيًّا، مكَّن سكان المدينة من إيجاد فرص عمل، ونشأة وتطور الأعمال الحرفية والصناعات التقليدية، وتحفيز الجمعيات الأهلية التي وجدت من هذا الموقع نافذة تسويقية رئيسة لمنتجاتها. تجربة الصويرة تبرهن على أن الأنظمة والتشريعات لم تكن يومًا من الأيام عائقًا أمام التنمية والتطوير والتأهيل، بل أكدت في تجارب عدة أنها العامل الرئيس في الحفاظ على الهوية المحلية، وفرصة حقيقية لتحويل الأحياء والمدن التاريخية إلى حاضن رئيس لمصالح سكانها، ومنفذ لعيشهم، وميزان لتحقيق العدالة في التنمية وتوزيع الموارد، وتمكينهم من الاستفادة منها.