قبل كشف مصير المواطن السعودي المختفي في إسطنبول الكاتب جمال خاشقجي أطلقت تركيا سراح القس الأمريكي برانسون المتهم بالإرهاب ضد الدولة التركية. هل بدأت تركيا تتبضع وتقايض مع أمريكا بقضية خاشقجي؟.. يبدو كذلك. لو لم تكن تركياوقطر على خلاف جيوسياسي كبير مع السعودية، هل كانت كميات التكهنات والتشويه والتلاعب بالصور ضد السعودية ستصل إلى هذه الحدود؟. إنها الدناءة الانتهازية في السياسة التي حولت اختفاء مواطن سعودي من قضية إنسانية يجب انتظار تفكيك أسرارها بروية وعدالة، إلى بضاعة سياسية وإعلامية قذرة تعرض على مدار الساعة بهدف تجريم السعودية دون أدنى احترام لمصير الشخص المختفي وكرامة أسرته وأقاربه، ولإصلاح العلاقة المعطوبة بين تركيا والولايات المتحدةالأمريكية للاستعانة بأمريكا ضد السعودية. أكبر الاحتمالات هي أن المختفي السيد جمال خاشقجي وضع كل بيضه وثقته في سلة أردوغان المعجب به كثيراً فافترسته ضباع السياسة التركية وضحت به كقربان. إن حادثة اختفاء عالم أو معارض أو جاسوس هنا أو هناك حدث شبه يومي في لعبة المكائد المخابراتية بين الدول، بما في ذلك الدول الصديقة والمتصالحة، وما يظهر منها في الإعلام هو فقط المتعلق بكون المختفي أو المخفي شخصية معروفة للعامة، حتى لو لم تكن مهمة على أي من المستويات العلمية أو المعلوماتية أو الاقتصادية أو السياسية. سنودون الأمريكي وأسانج الأسترالي وسكريبال الروسي، الأول لجأ إلى موسكو بعد تهريب معلومات سرية من دولته أمريكا إلى روسيا، وأسانج لجأ إلى السفارة الكولومبية في لندن لأنه فضح كل أجهزة الاستخبارات العالمية، وسكريبال هرب بمعلومات ووثائق خطيرة من روسيا إلى بريطانيا فاغتيل هناك. كل واحد من هؤلاء كانت له قيمة معلوماتية خطيرة، ورغم ذلك لم تثر قضية أي واحد منهم ما يمكن مقارنته بما أثير حول اختفاء المواطن السعودي جمال خاشقجي في إسطنبول، تلك المدينة الأخطبوطية التي يقبع في سجونها ثلاثمائة صحافي وكاتب رأي وأكثر من خمسين ألف معارض سياسي، وصاحبة التاريخ المتواتر في العمليات القذرة بين أجهزة المخابرات العالمية. الزميل جمال خاشقجي إنسان أولاً وقبل كل شيء ويجب التحري بدقة عما حدث له، ولكن ماهي القيمة العلمية أو المعلوماتية أو السياسية له (فك الله أسره إن كان مخفياً / مختفياً ورحمه الله إن كان في عداد الأموات) لكي تتهم السعودية باغتياله وإخفاءه؟. الاتحاد الأوروبي يطالب بسرعة التحقيق وبريطانيا تريد المشاركة بالتحقيقات، وفرنسا تلح على شفافية التحقيق، وأمريكا تتوعد وتعد بالتدخل في الوقت المناسب، وكل فضائيات وصحف العالم تكرر ما يقوله الإعلام التركي والقطري على مدار الساعة، وكلها تتدخل في الزحمة مع المتدافعين. ثلاث جهات تصر على معرفة ما حدث للمواطن السعودي جمال خاشقجي منذ الدقائق الأولى لخبر اختفاءه، هي الإعلام القطري وأجراء قطر في إسطنبول والإعلام التركي الذي يسبق بالتكهنات خطوات حكومته. لحسن الحظ المملكة العربية السعودية كعادتها في التأني وانتظار النتائج لم تدخل طرفاً متكهناً في الحدث وإنما أعلنت المشاركة في التحقيق المفتوح بدون تحفظات. من المحزن اختفاء أي شخص بطريقة غامضة، ولكن من هو السيد جمال خاشقجي في ميزان الأهمية العلمية والمعلوماتية والسياسية ولماذا كل هذا التدافع الدولي؟. أعرف الزميل جمال خاشقجي جيداً كمتابع لكتاباته الصحفية ومقابلاته الفضائية، وأعرفه قليلاً كمشارك عابر في جلسة عشاء ودردشة مفتوحة. ما أراه أن السيد جمال خاشقجي ولاشك شخص موهوب في ملكة الكتابة والحديث، وأنه شديد الطموح الشخصي يحب الأضواء والعيش الرغيد. الطموح الشخصي جعله يتنقل بين المتناقضات والمتناقضين، من مؤيد للقاعدة والحركات الجهادية ضد السوفييت ثم ضد الغرب الكافر في أفغانستان، إلى لصيق بأصحاب النفوذ الإعلامي والمالي في كل دول الخليج وهم ليسوا محسوبين على أي تيار إصلاحي، وطموحه هذا جعله يتحول إلى معارض لإيقاف مصائب الربيع العربي، ثم إلى شبه معارض ومغازل في نفس الوقت لخطط دولته في التحديث والتعامل الجدي مع مراكز الفساد والتعطيل التي توجب تحجيمها وتنحيتها عن طريق المستقبل. في النهاية جعل تذبذبه بين المتناقضات يلجأ إلى الدولة التي طالما هاجمها واعتبرها عدواً لدوداً لقناعاته المعلنة في مقابلاته ومقالاته، أي الحكومة الأمريكية. من العبث الدخول في الجدل الدائر حول اختفاء شخص قليل الأهمية العلمية والمعلوماتية والسياسية، فالموضوع الآن قد ابتلعته متاهات المخابرات العالمية، ويجب التزام الصمت حتى تنتهي التحقيقات المحايدة ويحدد المستفيد والفاعل الأول. ثمة تلطيخات وعدوانيات سوف تبقى في الذاكرة السعودية بعد كشف الحقيقة، منها استباق الإعلام القطري والتركي التحقيقات ببث تسريبات متسرعة لئيمة وعدوانية عن السعودية، ما تلبث أن تم طمسها لتبث غيرها في نفس السياق، لماذا، لأن السعودية أصبحت الحصن العربي الأخير ضد مشاريع الفوضى والعمالة وتقويض المجتمعات والدول العربية.