مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    اجتثاث الفساد بسيف «النزاهة»    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    سورية الجديدة.. من الفوضى إلى الدولة    خادم الحرمين يهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى استقلال بلاده    إحالة 5 ممارسين صحيين إلى الجهات المختصة    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    الأمن.. ظلال وارفة    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    ضيوف برنامج خادم الحرمين يؤدون العمرة    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    «إسرائيل» ترتكب «إبادة جماعية» في غزة    التحليق في أجواء مناطق الصراعات.. مخاوف لا تنتهي    من «خط البلدة» إلى «المترو»    أهلا بالعالم    ليندا الفيصل.. إبداع فني متعدد المجالات    كرة القدم قبل القبيلة؟!    قائمة أغلى عشرة لاعبين في «خليجي زين 25» تخلو من لاعبي «الأخضر»    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    122 ألف مستفيد مولهم «التنمية الاجتماعي» في 2024    ضبط شخص افتعل الفوضى بإحدى الفعاليات وصدم بوابة الدخول بمركبته    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    رفاهية الاختيار    النائب العام يستقبل نظيره التركي    5 مشاريع مياه تدخل حيز التشغيل لخدمة صبيا و44 قرية تابعة لها    حرس الحدود بجازان يدشن حملة ومعرض السلامة البحرية    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    استثمار و(استحمار) !    وسومها في خشومها    وانقلب السحر على الساحر!    منتخبنا كان عظيماً !    الضحكة الساخرة.. أحشفاً وسوء كيلة !    الأخضر يستأنف تدريباته استعداداً لمواجهة العراق في خليجي 26    نيابة عن "الفيصل".. "بن جلوي" يلتقي برؤساء الاتحادات الرياضية المنتخبين    اختتام دورات جمعية الإعاقة السمعية في جازان لهذا العام بالمكياج    إحباط تهريب (140) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    آل الشيخ: المملكة تؤكد الريادة بتقديم أرقى الخدمات لضيوف الرحمن حكومة وشعبا    موارد وتنمية جازان تحتفي بالموظفين والموظفات المتميزين لعام 2024م    "التطوع البلدي بالطائف" تحقق 403 مبادرة وعائدًا اقتصاديًا بلغ أكثر من 3مليون ريال    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    التخييم في العلا يستقطب الزوار والأهالي    مسابقة المهارات    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذكريات علمية مع نسور الوطن (2-2)
اليوم العالمي للتوعية بالنسور 2018م
نشر في الجزيرة يوم 06 - 09 - 2018


عظماء التحليق بالسماء
أستكمل شريط الذكريات مع نسور الوطن، عبر هذه المقالة أحلق فيها معكم مع أنواع أخرى من نسور الوطن، ولتكون جزء من مشاركة العالم في اليوم العالمي للتوعية بالنسور، والذي وافق الأول من شهر سبتمبر هذا العام (2018م)، أعرج فيها على مقتطفات من رحلة ثلاثة عقود من الزمان قضيتها في متابعة النسور.
فبعد عودتي بشهور من مُسوحات الحُبْرُو العَرَبي في أرض تهامة من وطني الحبيب، يشاء الله أن أبتعث لمؤسسة الغرانيق العالمية بالولايات المتحدة، لتعلم التلقيح الاصطناعي بالطيور، ضمن برنامج منظم يعتمد على التدريب على رأس العمل، بحيث يعمل المتدرب في العناية بالغرانيق من تغذية ومتابعة وتنظيف للأقفاص والعناية بالصغار، وبالمقابل يتم تدريبهم على طريقة التلقيح الإصطناعي التي تتم في الغرانيق، من جمعٍ للحيوانات المنوية وحفظها، ومن ثم تلقيح الإناث المستعدة للتلقيح حسب جدول معد عن طريق الحاسوب.
وللعلم فمؤسسة الغرانيق العالمية تعتبر من رواد العمل في الإكثار وإعادة التوطين للأنواع، ومن أشهر برامج المؤسسة برنامج إنقاذ الغرنوق السيبيري، والذي اختفى نتيجة الصيد الجائر خلال هجرته من سيبيريا والقارة الهندية. والغرنوق السيبيري من أطول الطيور قامةً وعمراً، ويذكر أن أحد أفراد هذا النوع والموجود بالمؤسسة مات وعمره 82 عاماً. وقد تم خلال برنامج التوطين إطلاق عدد من فراخ الغرنوق السيبري بمسنقعات سيبريا، كذلك نقل بيض مخصب إلى أعشاش غرانيق تتخذ من منطقة الغرنوق السيبيري منطقة للتناسل لتعتني أنواع أخرى من الغرانيق.
وقد هدفت مشاركتي بالبرنامج للمساهمة في تطوير برنامج الإكثار لطيور الحبارى بمركز أبحاث الحياة الفطرية بالطائف التابع للهيئة السعودية للحياة الفطرية، والذي استبدل اسمه لاحقاً لمركز الأمير سعود الفيصل لأبحاث الحياة الفطرية، ولا يخفى على أحد ما قام به المركز من تطوير لبرنامج إكثار الحبارى وإعادة توطين للحبارى ولأنواع أخرى بالمحميات الطبيعية، لا يزال ينهل من مخرجات تجربته سواء كان في مجال الإكثار أو التوطين، حتى الخبرات تهافتت عليها مراكز علمية ومراكز إكثار لتكمل مسيرة العمل، فَطُبِقٌتْ مُخْرَجات برنامج الإكثار بالمركز وطورتها.
في ذلك المكان بعيداً عن أرض الوطن بقرية تسمى بارابو تبعد ساعة بالسيارة من مدينة ماديسن عاصمة ولاية ويسكانسن، يقبع مقر مؤسسة القرانيق العالمية، التقيت بأهم علماء وحماة الغرانيق بالعالم إنه د. جورج أرشيبولد كان مدير للمؤسسة في ذلك الوقت وأحد مؤسيسيها، حيث دار بيننا أحاديث عن الحبارى والطيور، وخلال حديثه سَألني سُألاً غير مسيرة حياتي العلمية.. فقد سألني عن وضع نسر الأذون بالمملكة! والذي لا أعرف عنه إلا ما ذكره كتاب الطيور الحقلي، أنه موجود بالمملكة، فلم تكن لدي إجابة وافية، وتعجبت أكثر عندما استرسل في حديثه عن هذه النسور، وكأنه يعرفها.. كيف ذلك؟ وهو لم يزر بلداً بجزيرة العرب يتواجد بها هذا الطائر! ومما ذكر لي أيضاً أنه من الطيور المهددة بالانقراض بالجزيرة العربية وبلاد الشام، وأن المملكة تحوي أهم ما تبقى من معاقل هذا الطائر بعد أن اختفى من معظم مناطق انتشاره، وحالياً تقدر أعداد الطيور المتناسلة منه في جزيرة العرب حوالي 600 زوج معظمها موجودة بالمملكة.
لقد أشعل ذلك اللقاء مع د. جورج أرشيبولد الفتيلة الأولى التي أضاءت لي طريق البحث والمعرفة لما يحويه وطني الغالي من تنوع أحيائي بشكل عام والنسور بشكل خاص، فما أن حطت قدماي أرض الوطن حتى بدأت قصتي مع النسور وبالتحديد مع نسر الأذون، لأرتبط به خلال فترة من مسيرتي العلمية، نسجت من حياته وسلوكه أطروحتي لنيل درجة الدكتوراه.
النسور بمحمية الإمام
كان أول لقاءٍ مع نسر الأذون في محمية محازة الصيد، والتي انضمت حديثاً إلى المحميات الملكية ليصبح اسمها محمية الإمام سعود بن عبدالعزيز الملكية، وبالتحديد كان ذلك في صيف عام 1989م، قبل أن يكتمل سياج المحمية الخارجي، رافقني حينها أحد الفرنسيين العاملين بالمركز، وذلك لمعاينة منطقة المسيجات الداخلية والتي ستنقل إليها قطعان المها العربي وظباء الريم قبل إطلاقها داخل المحمية.
لم يكن هذا اللقاء مُشْبِعاً لشغفي ولا يفي النسر حقه، كيف لا ونسر الأذون من أكبر النسور المتناسلة بالمملكة حجماً، والوحيدة بين النسور بالجزيرة العربية التي تقوم ببناء عشها فوق أشجار السمر والسرح، أما النسور الأخرى المتناسلة بالمملكة كالنسر الأسمر والمصري والملتحي فتتخذ من الفجوات بالمنحدرات الجبلية مكاناً للتناسل، أما نسر الأذون فيبني عشه من أغصان الأشجار الجافة، ويصل قطره إلى أكثر من 2م.
كانت النسور تحلق فوق رؤوسنا مرتفعة في دوائر حلزونية تكبر كلما ارتفعت، لم يكن عددها يزيد عن أربعة نسور، لكن منظرها وهي محلقة بالفعل مهيب، راقبناها وهي تبتعد إلى أن توارت عن الأنظار، لم يكن الوقت مناسباً للبحث عن طيور أخرى، لكن مشاهدتها بالمحمية يجعلنا نضعها ضمن الأنواع التي يجب متابعتها ومراقبتها عند إكتمال السياج خاصة أنه انضم لقائمة الأنواع المهددة بالإنقراض على المستوى العالمي والإقليمي.
لم يمر وقت طويل حتى وجدت نفسي أجوب محمية الإمام باحثاً عن مواقع أعشاش نسر الأذون، أتسلق أشجارها لأتفحص البيض والفراخ، أسامر الليل وسواده، وأماشي النهار وحرارته أراقب سلوكها، أقطع مئات الكيلو مترات لأتتبع حركتها، لأدون بعضاً من سيرةِ طيرٍ ولا كل الطيور.
رحلة مع نسر الأذون
قبل سنوات خرجت مع أحد طلابي بالدراسات العليا لمعاينة فراخ نسر الأذون بمحمية محازة الصيد، ولتكون فرصة له لاختيار موضوع رسالته، فقد كان لديه عدد من الخيارات منها موضوع يتعلق بتكاثر نسر الأذون، بدأت مسيرتنا من الطائف قبل صلاة الفجر لنكون مع بزوغ شمس ذلك اليوم داخل المحمية، وأمام شجرةِ سمرٍ عليها عش نسر الأذون. أخذنا موقعنا وصوبنا مناظيرنا المقربة على ذلك العش فوق شجرة السمر، كان بالعش طائران بالغان أحدهما يقف على طرف العش يَرْمِقْنا بنظرات حذرة، والآخر رابضٌ بالعش لا نرى إلا رأسه.
نظرت إلى بندر فوجدته ينظر إلى يترقب ما سأملي عليه وما سيقوم به، كانت هي نفس النظرة التي نظرت فيها للدكتور رحماني عندما توقفنا أمام النسور السمراء بسهول تهامة من أرض وطننا الغالي، لقد شعرت بغبطة وإحساس جميل، فها هو الزمان يعيد نفسه فالتلميذ أصبح معلماً.. لم يتركني بندر لذكرياتي فقد بادرني بسؤال المطلع عن النسور قائلاً: هل صحيح أن إناث النسور تضع بيضة واحده فقط؟.. نظرت إليه وأنا في غاية السعادة وأجبته قائلاً: نعم.. إن جميع النسور تبيض بيضة واحدة، وهناك نظرية تقول: كلما كبر حجم الطائر قل إنتاجه، وطال عمره، والنسور تنطبق عليها هذه النظرية، فنسر الأذون هذا يصل لسن التناسل وعمرها بين 6 - 11 سنة، فتضع الأنثى بيضة واحدة في نهاية شهر ديسمبر وبداية شهر يناير من كل عام، يتشارك الزوجان بحضانتها لمدة 55-56 يوماً، ويصل الفرخ لسن الطيران وعمره أربعة إلى خمسة أشهر، يبقى في رعاية الأبويين بعدها لمدة تتراوح بين ثلاثة إلى ستة أشهر، وهذا يعني أن السنة كلها عمل للأبوين... توقفت عن الحديث للحظات لألقي نظرة مرة أخرى على العش لتسجيل سلوك النسور، فقد قام الرابض على البيضة وبدأ بتحريكها.
أكملت بعدها حديثي عن النسور وقلت له.. أتعلم يا بندر أن حماية الأنواع بالبرية مثل النسور هذه هنا بالمحمية مهمة جداً!.. ليس فقط لأهميتها بالنظام البيئي بالمحمية، لكن لأن الخلل الذي يحدث كبير وبرنامج إعادة توطينها طويلٌ جداً ومُكْلِفْ، وأحسن مثال على ذلك هو نسر كندور كاليفورنيا والذي كلف ملايين الدولارات سنوياً حتى أعيد للبرية واستغرق ذلك أكثرمن خمسة عشر عاماً من العمل في برامج إكثار وإطلاق، وحتى بعد إعادته إلى البرية، كانت هناك المخاطر التي بسببها اختفى من مناطق انتشاره، وعليه فإن من الدروس المستفادة عند توطين الحيوانات هو أهمية التأكد من إزالة المخاطر التي أدت في بادئ الأمر لاختفائه. فنسر الكوندور الكاليفورني كان أحد أهم الأسباب الرئيسية لاختفائه من البرية هو: التسميم ورش المبيدات الحشرية والزراعية، وحتى بعدما أعيد بالسنوات الأولى قُتل عدد كبير منها بسبب التسميم مما حذا بالقائمين على المشروع بإعادة العمل مرة أخرى في الإكثار تحت الأسر، كما تطلّب أيضاً تغير الأنظمة والقوانين لاستخدام السموم والمبيدات.
استرسلت في حديثي في هذا الموضوع لأهميته لنا هنا بالمملكة، فالهيئة تقوم بإنشاء مناطق محمية ذات بيئات مختلفة، لحماية هذه البيئات المختلفة وكذلك لوجود حيوانات مهددة بالإنقراض أو ذات أهمية بيئية وإما لتوطين أنواع مهددة بالإنقراض، لكن استمرار الصيد الجائر، وعدم ردع الأنظمة والتشريعات للمخالفين، أدى لاختفاء الظباء من المحميات الشمالية، وحتى هذه المحمية فمع وجود السياج وعدد كبير من الجوالين الذين يجوبون السياج لحراسته، لكن لا يزال هناك من يعتدي على الظباء والمها العربي ولا يراعون حرمة ذلك، وعليه فإن أي برنامج لحماية أنواع أو توطين يجب أن لا يُغفل الاهتمام بإزالة السبب الذي أدى إلى تناقص أعداده.
لم أستطع التوقف عن الحديث، فهذا الموضوع جداً مهم، وله جوانب إقتصادية، فما حدث بالهند من اختفاء النسور دق ناقوس الخطر عالمياً، فنتائج دراسات الأثر الاقتصادي بسبب تناقص أعداد النسور قدرت بخسائر وصلت إلى 34 مليار دولار خلال خمس عشرة سنة، وذلك لعلاج مشكلات صحية واجتماعية. فالعمل لمعرفة السبب لاختفائها أخذ وقتاً طويلاً، كما أن تشريع الأنظمة والقوانين وتنفيذها أخذ وقتاً أطول، والآن تقوم الحكومة الهندية وبدعم من منظمات دولية بإكثار النسور وإعادتها لبيئاتها الطبيعة وهذا أيضاً مكلف جداً.
نظر إلى بندر وحال وجهه يقول كيف ذلك؟.. فاسترسلت بالحديث.. إن موضوع النسور بالهند تردد ولا يزال يذكر في كل عام عندما يأتي موضوع النسور، لأنه مثل حي وعليه دراسات موثقة، والتي تشير إلى تناقص عددها من 40 مليون نسر بتسعينات القرن الماضي إلى 10.000 نسر، وكان من أهم أسباب تناقصها يرجع إلى التسمم الحاصل للنسور نتيجة استخدام دواء يساعد على تخفيف الآلام بالماشية يعرف باسم الدايكلوفيناك Diclofenac، ولكن وَجد أن هذا الدواء يظل بأنسجة الحيوانات بعد نفوقها، وعليه عندما تتغذى النسور على هذه الحيوانات تتسمم وتصاب بفشل كلوي ولا تعيش بعدها طويلاً، وما يثير الريبة أن هذا الدواء يستخدم مع الماشية هنا بالمملكة وهذا يتطلب العمل سريعا لإيقافة وتقديم البدائل المتوفره التي تم تجربتها، حتى لا تختفي نسور الوطن.
أما بالنسبة لحساب الخسارة الاقتصادية فقد كانت نتيجة لحل مشكلات اقتصادية وصحية، فالنسور كانت بأعدادها الكبيرة تتغذي على أنسجة الحيوانات النافقة وتبقي العظام، فستفيد منها سكان المناطق الفقيرة عن طريق جمع العظام وطحنها ثم بيعها مرة أخرى كبودرة كالسيوم لشركات الأدوية ومصانع السماد العضوي، لكن تناقص أعداد النسور أدى لزيادة العاطلين في القرى الفقيرة، كما أن اختفاء النسور زاد من جثث الحيوانات النافقة، مما أدى إلى زيادة أعداد الكلاب الضالة نتيجة وفرة الغذاء، مما أدي إلى زيادة أعداد الكلاب الضالة إلى سبعة ملايين كلب بين عامي 1992-2003م، وهذا أدى أيضاً إلى زيادة انتشار مرض داء الكلب بالمناطق الريفية والذي أصبح من أكثر الأمراض القاتلة بالهند بالسنوات الأخيرة، كما زادت عدد الإصابات نتيجة عض الكلاب فوصلت إلى حوالي 40 مليون إصابة، وهذه المشاكل الصحية والاجتماعية كلفت الحكومة الهندية هذه المبالغ الكبيرة ولا يزال الخسائر مستمرة.
اشتدت حرارة الشمس ونحن رابضين داخل السيارة نراقب النسور تارة، ونتحدث عنها تارة أخرى، حتى ظهرت علامات الإعياء علينا، في هذه الأثناء لاحظنا مغادرة أحد البالغين العش، ومن ثم قررنا الذهاب بجولة داخل المحمية قبل مغادرتها، فعرجنا على منطقة الرحى بالمحمية لمعاينة عش آخر، شهدنا خلالها منظراً جميلاً لتحليق النسور كان من بينها النسر الأسود، مرتفعة في كبد السماء، وصلنا لمنطقة العش ولم نجد شيئاً لا بالعش أو حوله وهذا يعني أنه ربما ترك الموقع، لذا انتهى برنامج زيارتنا للمحمية على الأمل العودة لها لاحقا لمتابعة وتسجيل سلوكيات النسر الأسود.
النسر الأسود
يذكر الباحثون أن النسر الأسود يصل بأعداد قليلة جداً خلال فصل الشتاء، ولكن من خلال الكاميرات التي تم نصبها بالقرب من موارد الماء بمحمية الإمام، سجلت أعداد تزيد عن 15 نسراً سوداً، لذا عدت لمحمية المحازة وبرفقتي زميلي من الجمعية الملكية لحماية الطبيعة من المملكة الأردنية الهاشمية د. نشأت حمدان، والذي يزور المملكة العربية السعودية للقيام بدراسة مشتركة عن أسماك المياه العذبة، زرت معه معظم الأودية ذات المياه الدائمة بالجنوب الغربي للمملكة، للتعرف على الأنواع المتوطنة بالمملكة، ونزولاً عند طلبه لزيارة محازة الصيد، هذه المحمية التي حصدت جائزة مجلس التعاون كأفضل محمية، والاطلاع على برامج التوطين للأنواع الفطرية بالمحمية، كذلك لمشاهدة نسر الأذون والذي يحضى بصدى كبير لدى المهتمين بالحياة الفطرية، لندرته وأهمية المحمية لهذا النوع، وهذا يجعل المسؤولية كبيرة للحفاظ عليه، كما أنه ربما يكون من أهم عناصر الجذب السياحي للمحمية.
وصلنا المحمية مع إشراقة الصباح، واتجهنا لداخل المحمية لمشاهدة المها العربي والظباء والنعام، خلالها ناقشني أخي نشأت عن ورقتي العلمية التي تتحدث عن تقييم برنامج التوطين بدول الانتشار للمها العربي، فالأردن من أوائل الدول التي أقامت برنامج للمها العربي بمحمية الشومري، لذا تركز حديثنا عن معوقات التوطين للأنواع الفطرية، وبينما نحن كذلك نسير في منطقة المحتفر وسط غرب محمية الإمام، إذا بمنظر مهيب جدا لنسور تَجَمْعتْ على أحد ذكور المها العربي النافقة، ما عزز من جمال المنظر، خاصة أن هناك أربعة أنواع من النسور هي: نسر الأذون، والنسر الأسمر، والنسر المصري، وعدد بسيط من النسور السوداء المهاجرة، بالإضافة لعدد من عقبان السهول.. لا أدري كم من الوقت بقينا ننظر لهذه النسور وهي تتهافت على الجيفة، كل واحد منها يود أن يحصل على نصيبه مما أفاء الله له، وتجسد أمامي ما كنت قرأته عن كيف أن شكل النسور ووجود الريش بمنطقة الرأس والرقبة وقوة المنقار يجسد أهمية في تقليل التنافس بين هذه الطيور، فنسر الأذون والنسر الأسود يبدأ الريش تقريباً من منطقة الرقبة، أما منطقة الرأس وجزء من الرقبة تخلو من الريش، كما أنهما يستطيعان بمناقيرهما القوية القاطعة تمزيق الجلد والتغذي عليه وعلى الأنسجة الداخلية منها والعظام، أما النسر الأسمر فرقبته الطويلة الخالية من الريش، وتغذيته فقط على الأنسجة الناعمة يجعله يتوغل برأسه داخل الحيوان النافق للوصول للأنسجة الناعمة، لذلك فهو يحتاج إلى رقبة طويلة للوصول إلى هذه الأنسجة، ومنطقة خالية من الريش بالرأس والرقبة حتى لا تعلق السوائل والدماء المتعفنه على الريش، فالزغب يتساقط فلا يصل لجلد الرقبة والرأس..
أما النسر المصري فقد كان عدده قليل وتقف بعيداً تنتظر دورها وتلتقط ما تساقط من كبار النسور والتغذي على الأنسجة السطحية الناعمة كالعيون واللسان والأنسجة العضلية المتساقطة من الطيور الكبيرة، وعليه فإن الريش يختفي فقط من مقدمة الرأس ليواكب طريقة تغذيتها.
مكثنا وقتاً طويلاً نشاهد العراك السلمي بين هذه النسور الكل حصل على وجبته لا ضرر ولا ضرار، ومن أجمل السلوكيات التي سجلناها لنسر الأذون هي طريقته في المشي للنسر السائد على المجموعة كأنه في عرض عسكري متجهاً لموقع الجيفة، فيبتعد عنه كل النسور وتفتح له طريقاً للنهل من الوليمة، هذا المنظر ذكرني بقصيدة نسبها الجاحظ لجنوب أخت عمرو ذي الكلب الهذلي رثت أخاها الذي مات بالمعركة والنسور تقترب منه كمشية العذارى قائلة:
تمشي النسور إليه وهي لاهية مشي العذارى عليهن الجلابيب.
لم يبق من جثة المها العربي سوى بقايا من الهيكل العظمي، تذكرت حينها النوع الخامس من النسور الموجودة بالمملكة وهو النسر الملتحي، والذي كان منتشراً على امتداد جبال الحجاز وعسير، وذُكِرَ وجوده أيضاً بالمناطق الجبلية المرتفعة من منطقة المدينة وتبوك، فذكرت لأخي نشأت لو كان النسر الملتحي موجوداً لجاء دوره مع هذه العظام المتناثرة، فهو من بين النسور جميعها الذي يتضمن غذاؤه نسبة كبيرة من العظام، حيث تصل نسبتها حوالي 85 %، أتعلم أيضاً أنه الوحيد من النسور الذي يوجد على رأسه ريش، حتى أسفل قاعدة المنقار يوجد ريش كأنه لحية، ومن هنا جاء اسمه «النسر الملتحي».
في الختام أتمنى أن أكون قد نجحت في التذكير بنسور الوطن وأهمية المحافظة عليها، خاصة أنها تتناقص بشكل كبير وملفت للنظر، فالنسر الأسمر اختفى من كثير من مناطق انتشاره بالمملكة، حتى أصبح مهدداً بالإنقراض على المستوى الإقليمي، أما نسر الأذون والمصري فحالتهما أسوأ بعد أن تدهورت أعدادهما، لحد إدراجهما في القوائم الحمراء للأنواع المهددة بالإنقراض. أما النسر الأسود فقد صنف من ضمن قائمة الأنواع المعرضة لخطر الإنقراض، فهل يمكن أن تختفي عظماء التحليق بالسماء، ويتكرر سيناريو النسور بالقارة الهندية، وما أثر ذلك على نظامنا البيئي الصحراوي الهش، وهل ننجح ونتحمل المسؤولية للمحافظة على ما تبقى من هذه الطيور ليراها أبناؤنا ولتساهم بما وهبها الله لتحافظ على النظام البيئي على أرض الوطن.. أرجو من الله ذلك!.. فالنسور طيور غير كل الطيور.
** **
مستشار متفرِّغ بالهيئة السعودية للحياة الفطرية - عضو هيئة التدريس بجامعة الطائف - عضو اللجنة العلمية لمذكرة التفاهم للمحافظة على الطيور الجوارح المهاجرة بين إفريقيا وأوروبا وآسيا - رئيس اللجنة الإقليمية لمنظمة البيرد لايف إنتر ناشونال لمنطقة الشرق الأوسط


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.