في أواخر رمضان وأنا أنتظر الإفطار؛ تسلل إلي خبر كدر الخاطر وأخر الإفطار، مع أن الأبناء حجبوه عني ليوم أو بعض يوم، ذلك هو نبأ وفاة الفقيد الكبير الأمير سعود بن عبد الرحمن السديري رحمه الله. منذ تلك اللحظة؛ وأنا أحاول أن أقول شيئًا يعبر عن الوفاء في رثاء الفقيد، لكن استحال عليّ الحديث، وحيل بيني وبين الكتابة، فصرت أؤجل وأسوف وأنا متأسف على التأخير، لكنني عزيت نفسي ليكن رثاءً وتأبينًا ولو بعد حين. عرفت الفقيد الماضي إلى رحاب الرحمن منذ كان أميراً لمهد الذهب في أواخر الخمسينيات الميلادية، كان - رحمه الله - ينشر مقالة شهرية في مجلة المنهل، تدل على ثقافة عربية وتمكن من الإحاطة بالحياة الاجتماعية، كان صاحب المجلة الشيخ عبد القدوس الأنصاري يهتم بتلك المقالات ويعتني بإخراجها. ودارت الأيام، وحضر الأمير سعود إلى الرياض في إحدى زياراته، ودعاه والدي - رحم الله الجميع - فتشرفت بمعرفته، وسعدت برؤيته. منذ ذلك اليوم اتصلت أسبابي بأسبابه، وبدأت أتعرف على جوانب من شخصيته، فاكتشفت فيه الإنسان العاقل المتعقل، والإداري المتأمل غير المتسرع ولا المتعجل. ولقد ناولني الابن بندر بن معمر بعض المقالات التي كتبت عنه في حياته، ومنها مقال كتبه المرحوم عامر اللويحق الذي عمل مع الأمير سعود في مهد الذهب والباحة وغيرهما، وجايله وأعجب بإدارته الحازمة وقدرته على تصريف الأمور بعقل وعدل وقسطاس، وقد ضاعت مني تلك المقالة، وإلا كنت استعنت بها في هذا الموضوع. لقد هزتني وفاة الأمير سعود، واستدارت بي الأيام إلى سنين خلت وليالٍ مضت كنت أزوره فيها في منزله في الطائف، فأجد منه كل ترحيب وحسن استقبال، وكذلك في الرياض أو الغاط. كان من عادته إبان توليه إمارة منطقة الباحة؛ دعوة الأدباء وكبار المثقفين لزيارة المنطقة، وقد خصني مع ثلة منهم بدعوة، وعهد إلى بعض الموظفين المتأدبين بمرافقتنا، فقضينا في الباحة أيامًا لا تنسى. كان رحمه الله أنيس المعشر، حسن الحديث، خاصة إذا تطرق الكلام عن الأدب والثقافة، فقد كان على إطلاع واسع منذ شبابه في المدينةالمنورة، حيث درس وتضلع في اللغة العربية على بعض علماء المغرب العربي المقيمين فيها، الذين أثروا في تكوين شخصيته الثقافية وعارضته الأدبية، كما تعرف على عدد كبير من أدبائها وعلمائها وكبار مثقفيها، أمثال الشيخ عبد القدوس الأنصاري، والسيد علي حافظ وغيرهما. إنك تلاحظ الفصاحة في كلامه لا الركاكة، والبيان في أسلوبه لا الغموض، وقد أعانته هذه العادة على التمكن من معرفة حقائق الحياة وحقيقة الناس: بصير بأعقاب الأمور كأنما يخاطبه من كل أمر عواقبه كنت في مطلع شبابي أعمل موظفاً بديوان رئاسة مجلس الوزراء، وكانت تربطه بالأديب الكبير الشيخ عبدالعزيز الرفاعي معرفة قديمة، وصداقة حميمة. كان كل منهما معجباً بالآخر لتشابه طبائعهما وتقارب مزاجهما واعتدال آرائهما، كان يمر على الأستاذ عبد العزيز كلما زار الديوان لشأن من شؤونه، فأسعد بلقاء وحديث الكبار. ماذا أقول وماذا أدع عن أحد الرجال الذين عرفتهم وعرفت عنهم، وأنا الذي تخصصت في أدب الرثاء، وعُرفت والحمد لله بالوفاء. لقد رثيت الأسماء التي ذكرتها سابقاً وتحسرت على مغادرتهم دنيانا، ولكنها إرادة الله وقدره الذي لا يرد: إن فقد الكبار رزء عظيم ليس فقد الرعاع والأرذال كان الأمير - رحمه الله - يحيط بشواهد الشعر وكلام العرب وحكم العظماء، يرويها ويتمثل بها، ويستشهد في مقالاته وأحاديثه بالكثير منها، ما جالسته يوماً إلا خرجت بفائدة أو معلومة، لقد عركته التجارب وحنكته الحياة وتقلبت به الأيام، وقد أعانته هذه الأشياء على تصريف الأعمال التي أوكلت إليه ومعرفة، البشر الذين يلتقي بهم سواء في العمل أو خارج العمل. لم يكن الأمير سعود مسؤولا عاديا، ولا موظفا روتينيا، بل كان فيلسوفًا إداريًا وعبقريًا قياديًا، سمعت من بعض من عملوا معه في الباحة؛ أنه طلب أن تستبدل عبارة: (لاعتماد إنفاذ ما تقرر شرعًا) عند إحالة الإمارة للمعاملات الواردة من المحاكم إلى جهات التنفيذ، بعبارة ( لاعتماد إنفاذ ما قرره القاضي أو القضاء)، وكان يبرر ذلك بأن القاضي قد يخطئ في حكمه، وبالتالي لا يصح أن ينسب ذلك إلى الشرع. كان رحمه الله أنيق المظهر، عميق المخبر، متوازن الشخصية، معتدل المزاج، ينزل الناس منازلهم، يكرم ويقدر من يستحق التقدير والتكريم، ويصد ويحجم من يستحق الصد والتحجيم: ( لستُ بالخبّ ولا الخبّ يخدعني). لقد سوفت وأجلت في كتابة هذا المقال أبتغي ساعة صفاء أو لحظة تجلي، فما حصل الصفاء ولا حل التجلي، لأن المقام مقام رثاء وتأبين، فلم تسعفني العبارات ولم تنهال علي الكلمات، وكنت أتلجلج في الحديث وأمحو وأثبت في الكلام، لقد فاتني أن أشارك في العزاء شخصياً الذي أقيم في الرياض وتبادل فيه الحضور العزاء في الفقيد، حيث كنت أقيم في الطائف من قبل شهر رمضان، وقد حز ذلك في نفسي، وعز علي عدم الحضور لتعزية أبنائه النجباء وأصدقائه الأوفياء، لذلك قلت أقل الواجب أن أساهم ولو بمقال يعطي الفقيد بعض حقه. كنت أتصور في لحظات تمر علي آخر زيارة لقيته فيها بعد أن احتجب عن الناس، حيث أدركه الكبر وضعف البشر، لقد دخلتُ عليه مع ابنه حسين وقبلت جبينه وهو لا يشعر بمن حضر، ولم أعلم أنها الزيارة الأخيرة إلا بعد أن فاجئني الخبر، لقد تصورت الجموع التي صلت عليه ومشت خلف جنازته إلى مثواه الأخير، ثم رجعوا يحيط بهم الحزن ويجللهم الذهول وكل منهم يقول: تركوك في المثوى الأخير وغابوا وتقطعت من دونك الأسبابُ لقد عانى - رفع الله منزلته- في آخر حياته من أمراض وعلل صبر عليها صبر المؤمن المحتسب، ولعله ممن يشملهم الحق تعالى بقوله: (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار). لقد كتب عن الأمير سعود الكثير وقيل عنه الأكثر، فليت أبناءه النجباء يجمعون بعض ذلك مع بعض من مقالاته وصور ورسوم لحياته، ثم تطبع في كتاب يؤرخ لهذه الشخصية الفذة التي ذهبت إلى رحمة الله، وهذا مقال أكتبه بتأثر، وأمليه بحزن، أعبر فيه عن مشاعر شخصية، وأحاسيس لدنية، عن شخصية عرفتها منذ سنين وتأثرت بها وأعجبت بطريقتها في الحديث والكلام والتقدير والإكرام، لا أستطيع أن أكمل، فحسب القلادة ما أحاط بالعنق، رحم الله الفقيد الكبير وأدخله مدخلاً كريماً. لعلك في جوار الله باق ويشفع في خطاياك الرسول