من خصائص أمة العرب، التي ربما أنها تتميز بها عن بقية الأمم، هو الحنين المغرق بالرومانسية، الذي يكتنف الفرد عندما يتعامل مع ذكريات الماضي، فالماضي دائماً هو ماض جميل، أو هو على الأقل أفضل من الحاضر، الذي يغلّفه الخوف من المجهول. والسؤال الذي يطرحه الواقع: هل هذا الماضي في مجمل تفاصيله كان جميلاً، أو هو على الأقل أفضل من الحاضر، إذا تعاملنا معه بتجرد بعيداً عن الرومانسية والرغبوية؟ أنا بلغت من العمر الآن ما يتجاوز الستين سنة، وبالتالي عاصرت جزءاً من الماضي، وأنا الآن وقد بلغت مرحلة الكهولة، أو بلغة أدق بداياتها، أجد أن الماضي، على الأقل لنا في المملكة، لم يكن جميلاً، بقدر ما كانت تكتنفه كثيراً الظواهر التي تجعله في المحصلة خاصة إذا ما قارناه بالمستوى المعيشي والخدمي الذي نعيشه الآن، حيث الرفاهية والخدمات التي تجعل من الحياة بالنسبة للفرد بمثابة النعيم مقارنة بما كان يعيشه الفرد في الماضي. ربما أن الفرد إذا غادر مرحلة الشباب، ودخل إلى مرحلة الشيخوخة، يحن إلى شبابه، حينما كان شاباً نشيطاً، حيوياً، قادراً على مغالبة الظروف الحياتية، لكن ذلك لا يعود للزمن، وإنما يعود إلى التباين الفسيولوجي بين مراحل عمر الإنسان, لذلك يمكن القول وبواقعية أن الماضي الذي يصفه البعض بالجمال، هو ليس كذلك البتة، فالحاضر الآن والمنجزات التي وصل لها الإنسان، على كل المستويات، هو أفضل وبمراحل من الماضي، الذي كان في الغالب تعيساً، متعباً، تكتنفه الأمراض والأوبئة، وتحيط به من الصعوبات الحياتية ما يجعله بائساً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ومن أجل أن يعرف النشء هذا الماضي الذي يتغنى به الكهول، ويحنون إليه، إذهب إلى إحدى حواضر بلدة صغيرة في أدغال أفريقيا، حيث يعيش الناس هناك في بيوت طينية، ممتلئة بالحشرات، وتفتقر إلى الخدمات، حتى البسيطة منها، واسأل نفسك: هل تستطيع أن تعيش في هذه البيئة الحياتية..؟ الرياض في الستينيات، وأوائل السبعينيات من القرن الماضي كانت إلى حد بعيد شبيهه بتلك الحواضر، التي تسمى تجاوزاً مدناً. كما أن الفرد حينها لا يختلف في حياته وأخلاقه بإيجابياتها وسلبياتها عن الإنسان في تلك الحواضر، فالماضي الجميل الذي يحن له بعض الكهول الآن، ويتفننون في وصف بساطته، ونقاء إنسانه، هو في حقيقة الأمر مجرد وهم كاذب، وتصورات لأحلام لم تكن موجودة، فالتنمية التي عاشتها المملكة خلال الأربعة العقود الماضية، بما لها وعليها، أفضل وبمراحل في كل المجالات من الماضي المتخلّف الذي كنا نعيشه، ولو أن المجال في هذه العجالة يتسع، لضربت لكم من الأمثال الذي كان يعيشها إنسان الماضي في الرياض التي ولدت فيها وعشت طوال عمري فيها، ما يرفضه الذوق السوي في كل المجالات، فلماذا تزوير الحقائق، وإضفاء صورة ملائكية مغرقة في المثالية على ماض لم يكن كذلك إطلاقاً, حاضرنا، وبكل المقاييس أفضل وبمراحل من ماض تعيس فقير بالمعنى الشامل للفقر. إلى اللقاء.