«هيئة الإحصاء»: معدل التضخم في السعودية يصل إلى 1.9% في أكتوبر 2024    البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت    الذهب يتراجع لأدنى مستوى في 8 أسابيع وسط ارتفاع الدولار    اختتام مؤتمر شبكة الروابط العائلية للهلال الأحمر بالشرق الأدنى والأوسط    الوداد تتوج بذهبية وبرونزية في جوائز تجربة العميل السعودية لعام 2024م    وزير الخارجية يصل لباريس للمشاركة في اجتماع تطوير مشروع العلا    صندوق الاستثمارات العامة يعلن إتمام بيع 100 مليون سهم في stc    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    "محمد الحبيب العقارية" تدخل موسوعة جينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    ماجد الجبيلي يحتفل بزفافه في أجواء مبهجة وحضور مميز من الأهل والأصدقاء    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    رقمنة الثقافة    الوطن    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    عصابات النسَّابة    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    استعادة التنوع الأحيائي    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    المنتخب يخسر الفرج    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    بوبوفيتش يحذر من «الأخضر»    أجواء شتوية    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    الذاكرة.. وحاسة الشم    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غياب التجربة السياسية عن المجال العام
نشر في الشرق يوم 08 - 02 - 2013

لا توجد حيرة أكثر من موقف الذين يخبطون خبط عشواء إزاء قناعاتهم الفكرية والثقافية، فهم تارة يعرِّفون أنفسهم ليبراليين. لكن صدورهم لا تتسع للمختلفين عنهم في الرأي، ناهيك عن الاختلاف في المعتقد أو القبيلة. وتارة أخرى تجدهم يرفعون شعار الإسلام الليبرالي كهوية على اشتغالاتهم في الفكر والثقافة. لكن حين تفتِّش في أدبياتهم عن معنى الترابط بين ما هو ليبرالي، وبين الإسلام، لا تقع على تأصيل لمفهوم الحرية في الإسلام، أو إحياء هذا المفهوم، ومن ثم إعادة ربط تاريخه بقضايا الحاضر.
عندهم الممارسة الليبرالية لا تتعدى أسوار التعامل الحر مع النصوص، التعامل المنفلت من كل قيد تاريخي، الذي لا يلزم نفسه بإطار مرجعي ولا بموقف أخلاقي. هذا التعامل لا يفضي، في أحسن أحواله، سوى إلى الفوضى وعدم المسؤولية تجاه الواقع والمجتمع.
الحرية التي يتصورونها مقطوعة الصلة بتاريخها الإسلامي، لكنها وثيقة الصلة، من جانب آخر، بآثار الفكر الغربي التي لا تنفك تستدعي عندهم مفهوم الحرية المتصل بالتاريخ الفلسفي والاجتماعي والديني للغرب نفسه. لكنه اتصال لا يعي شروط اتصاله، ولا يأخذ بأسبابه التاريخية، ولا بسماته الاجتماعية، ولا بحدوده الجغرافية.
لذلك مهما أعلوا من شأن الحرية في خطابهم، فإن حدود ارتباطه بهم يتحكم به الآخر الغربي ضيقاً واتساعاً، بعداً أو قرباً.
أيضا هناك فئة من الناس تتبنى خطاب التنوير باعتباره نهضة شاملة في شتى جوانب الحياة العربية. المشكلة التي ترتبط بهؤلاء أنهم:
أولا- لم يخوضوا معركة التنوير إلا في مجال التعليم، وهو المجال الأكثر بروزاً عند الجيل الأول من المتنورين في المملكة منذ نهاية الثلاثينيات إلى حقبة الخمسينيات.
ثم تالياً كان الأدب هو المجال الثاني الذي برزت من خلاله جهود كثير منهم في صناعة التنوير الاجتماعي والثقافي.
ثانياً- الطابع التنويري لتلك المرحلة، شكلته عوامل عديدة، لا دخل للطبيعة الثقافية والفكرية عند هذا المثقف أو ذاك فيها، بل في جلها عوامل فرضتها المرحلة التاريخية للعرب الباحثين عن الوحدة العربية وعن شرعيتها في مشاريع متنوعة من إسلامية وقومية وبعثية وماركسية اشتراكية وناصرية، وهكذا تعددت الرؤى والمواقف والقناعات في ظل معركة محتدمة ضد الاستعمار وسياساته، التي وجدها العرب عدائية ولا تحقق جزءاً من مطالبهم ومصالحهم في الوحدة. لكن انحصار التنوير بعد تأسيس المملكة وتوحيدها مباشرة، ظل في هذين المجالين اللذين ذكرناهما؛ لأن الوعي السياسي للمنطقة لم يكن جزءاً من المجال الثقافي الذي يتم تداوله بين الناس، بل كانت الأولية في ترسيخ مؤسسات الدولة، ومن أهمها كانت مؤسسات التعليم.
لذلك مثل هذا التباين في الاهتمام بين مثقفي تلك المرحلة فرضته طبيعة الظروف الاجتماعية والسياسية، ففي حين كان الوعي بالقومية العربية يتشكل منذ العشرينيات في جبل لبنان، كانت الجزيرة العربية بعد التأسيس تتلمس طريق البدايات والنهوض كدولة، وأغلب المثقفين الذين انخرطوا في كيانها كانوا مهمومين بقضايا التعليم والتربية.
ثالثا- هذا الوضع أسس لاحقاً لحالة فصام في الثقافة السعودية، نراها بلا شك واضحة للعيان في الخطاب الثقافي ذي المشارب المتنوعة للمثقفين السعوديين.
وليست حالة الفصام هنا سوى انفصال المجال العام عن أهم قضايا التنوير التي طرحت في الساحة العربية وبلدانها المختلفة؛ كالتأسيس لحياة برلمانية، والسعي الحثيث لعلمانية مرتبطة بالمفهوم القومي للعرب، والتأسيس لأحزاب سياسية قائمة على الليبرالية كحزب الوفد المصري، ناهيك عن المد الشيوعي والوعي الطبقي للعمال القادمين من الريف، حيث خرج من أوساطهم أغلب السياسيين الذين سيحكمون بخلفياتهم الثقافية الريفية أغلب الأقطار العربية.
صحيح أن المد الناصري في الخمسينيات أثَّر بصورة أو بأخرى على النخب المثقفة، وعلى بعض الأوساط الاجتماعية.
لكنه لم يتحول كظاهرة في المجال العام بوصفها خطاب تنوير يتم تأصيله في المجتمع، وما ينطبق على الناصريين ينطبق كذلك على الشيوعيين الماركسيين. المجال العام في السعودية مقطوع الصلة بتاريخ التجربة السياسية العربية، ناهيك عن تاريخها في التجربة الدولية، وهذا أدى فيما أدى إليه إلى ضعف الوعي السياسي، الذي أصبح ضمن اختصاصات الدولة ودبلوماسيتها، بينما المجال الاجتماعي والثقافي امتلأ بقضايا أغلبها يتعلق بالأحكام الشرعية والفقهية والعقائدية التي يبتلى بها الناس في شؤونهم اليومية، وطبيعي في وضع مثل هذا أن تنهض نخبة مثقفة ترى في التنوير مجرد إرشادات وعظية وأخلاقية تحت تأثير خطاب إسلامي أبدع الإخوان المسلمون منذ نهاية العشرينيات في مصر للتأسيس له، في انقلاب واضح على الليبرالية الوليدة في مصر.
لذلك لا أستغرب كثيراً من هشاشة التفكير السياسي عند أغلب نخبنا المثقفة، سواء من يدعي الليبرالية منهم أو من ينطلق في تفكيره من كونه إسلامياً متنوراً، ومن يرى نفسه في خانة العلمانيين المعتَّقين، هؤلاء لا لوم عليهم؛ لأننا لا نملك بكل بساطة تجربة سياسية يمكن الاتكاء عليها في الأزمات التي تعصف بالمجتمع أو البناء عليها إذا ما تطلب الأمر تحليلاً وفهماً وحواراً.
وهذه الهشاشة يمكن التدليل عليها بظاهرة لا تجدها إلا في المجال العام السعودي، وهي التعبير عن القضايا السياسية من منظور ديني وبلغة دينية، لا تمت إلى اللغة السياسية بصلة، وهذا التعبير للأسف يمكن أن نقبله من الخطاب الإسلامي المتصالح مع نفسه في توجهاته.
لكن ماذا عن من يدعي الليبرالية والعقلانية وهو يحلل قضايانا السياسية من المنظور ذاته؟ ونقول: هي ظاهرة؛ لأن عامة الناس غير المؤدلجة والبسيطة في تفكيرها، تحلل بهذه الطريقة.
أظن في النهاية أن مظاهر الفصام ومظاهر تلك الهشاشة نابعة من طول الغياب السياسي عن المجال العام في السعودية، الذي من أهم مرتكزاته: الحوار بين الدولة والمجتمع، البيت والمدرسة، الطالب والمعلم، المسؤول والموظفين، المثقف والسياسي.
ونابعة كذلك من ضياع بوصلة التنوير في قضايا إجرائية لا تعلي من شأن تطوير شروط الإنسان العلمية والفكرية، بقدر ما تسعى إلى تكتلات ثورجية باسم الديمقراطية والحرية، كما الإخوان المسلمون، وإذا ما تم لهم ذلك كما رأينا، كان خراب مالطا!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.