في كل رمضان يتكرر عليَّ سؤال مؤرق، عن هذه الحالة العجيبة التي تعيشها قنواتنا العربية حين يقترب هذا الشهر الكريم، وكيف أنها تنقلب رأساً على عقب، فتتغير الهيكلة، ويتبدَّل التوجُّه، وتُستنفر الطاقات، وتُبذل الأموال، وتُستقطب الخبرات، وتُكثَّف الاجتماعات، وتُنتخب البرامج، وتشتد المنافسة، إلى درجة تكاد تُقسِم معها أنَّ رمضان ما فُرض إلا لأجل ذلك! أقول: إنَّ هذا السؤال يؤرقني منذ زمن، لماذا تختار قنواتنا شهر رمضان تحديداً لتعبئة أوقاته الفاضلة ولحظاته الثمينة بأنواع البرامج والمسلسلات التي تشتريها بملايين الريالات، وأصناف المسابقات التي ترصد لها مبالغ ضخمة وجوائز ثمينة؟ ولم أجد إجابة شافية إلا حين فكرتُ بالأمر من جهة أنَّ الضغط يولد الانفجار. وذلك أنه ترسَّخ في الذهنية العربية أنَّ هذا الشهر الكريم هو شهر عبادةٍ وتقرُّبٍ إلى الله سبحانه بأنواع القربات، ومن خلال العمل فيه يمكن أن يتم التجاوز عن الخطايا والذنوب التي ارتُكبت في الشهور الماضية، إضافةً إلى التزود بأنواع الخيرات واستثمار مضاعفة الحسنات، لذلك يجتهد الناس في هذا الوقت المبارك لإدراك ما فات، والاستعداد لما هو آت، غير أنهم ظنوا أنَّ نهار رمضان هو المقصود بالفضيلة، والمطلوب للاستثمار؛ لأنَّ فيه الصوم، وأنه ينبغي للإنسان حينها أن يتجنَّب كل ما يفسد صومه، بل يزيد على ذلك أن يبتعد عن كل لهو ولعب يمكن أن يؤثر في قبول صيامه أو نقصان أجره. ومن هنا توجَّهت معظم القنوات إلى اختيار البرامج الدينية مما يتناسب مع حرمة هذا الشهر الفضيل، وبثها في أوقات النهار التي يكون فيها المسلم في قمة روحانيته، حين حرم نفسه من ألذ المأكولات وأشهى المشروبات؛ طاعةً لربه وتقرباً إليه، وكأنَّ هذه القنوات رأت في هذه الحالة التي يعيشها الصائم ضغطاً كبيرا، بل ربما عدُّوه نوعاً من الرهبنة مقارنةً بحاله في الشهور الماضية، فهو صائمٌ متوجهٌ إلى ربه مقبل عليه بدعائه وتلاوة كتابه من جهة، وحريصٌ على تجنب كل ما قد يفسد صومه من جهة أخرى. وبسبب هذا الضغط الكبير الذي ظنوا أنَّ المشاهد العربي يواجهه في نهار رمضان كان لا بد أن يقابله انفجارٌ في المساء، متوهمين أنَّ هذه طريقة مثلى للتنفيس عنه وتسليته وتعويضه عن المعاناة التي يرون أنَّ المرء قد مرَّ بها في النهار، فليس عجيباً أن تنفجر هذه القنوات في الليل، وتتنافس فيما بينها بهذا الكم الكبير من البرامج التي ترتكز على أساس التسلية والترويح والإمتاع، وتعتمد على الكوميديا والإضحاك؛ سعياً إلى إسعاد النفس ومكافأتها بعد عناء يوم طويل. لقد أدَّى هذا الانفجار البرامجي في رمضان -مع مرور الزمن- إلى انفلات في عدد البرامج المختارة وفي طبيعتها وفي طريقة تقديمها، فتكدَّس فضاؤنا العربي ببرامج ومسلسلات ومسابقات بشكل لا يقبله عقل ولا منطق، وكأنَّ هذه القنوات لم تبدأ البث إلا في هذا الشهر المبارك! بل إنَّ كثيرا من قنواتنا العربية لا نعلم بوجودها إلا في هذا الوقت الفضيل! إنني أتفهم حرص هذه القنوات على التكسُّب مادياً من وراء هذا الصائم المسكين الذي يظن أنه يستحق متابعة هذه البرامج بعد الجهد الكبير الذي يرى أنه بذله في النهار، وأتفهم أيضاً أهمية صناعة البرامج والمسلسلات، ولا أعترض عليها حتى في هذا الشهر الكريم، شريطة أن تكون منتقاةً بدقة ومختارةً بعناية، من حيث جمال العرض وجودة الأداء وسلامة المضمون ونبل الغاية، وأتفهم حاجة الصائم إلى الترويح عن النفس والراحة من خلال مشاهدته لهذه البرامج، إلا أنَّ الإشكالية في رأيي هذا الكم الكبير من البرامج والمسابقات، والاستنفار المبالغ فيه من الأعمال الدرامية والكوميدية التي تنتجها القنوات في هذا الشهر الكريم، في حين تختفي هذه الجهود وتتلاشى تلك العروض في بقية أيام السنة، فتضحي قنواتنا قاحلة فقيرة، يهش المسؤولون عنها الذباب. إنَّ حديثي هنا لا علاقة له بطبيعة هذه البرامج، وحجم فائدتها، ومستوى جمالها، وقيمتها الدرامية، وحسن الأداء فيها، ومصداقيتها في تمثيل الواقع، ودورها في تشويه المجتمع أو تحسينه، وأنه من الأجدى استثمار هذه الأوقات المباركة فيما يفيد وينفع، فهذا موضوعٌ آخر ذو شجون، إنما الحديث عن جدوى هذا التكديس الذي أحال قنواتنا التلفزيونية -من حيث لا تشعر- إلى قنوات موسمية، تنتظر هذا الشهر الكريم لتُقدِّم فيه كل جهودها، وتحشد فيه كل برامجها ومسلسلاتها ومسابقاتها، ثم تختفي طوال عام كامل؛ لأنها رأت أنَّ الصائم كان مضغوطاً في نهار هذا الشهر، فمن الطبيعي أن يحتاج في مسائه إلى انفجار برامجي يعوض معاناته وتعبه، وهي رؤيةٌ سقيمة، ونظرةٌ فيها كثيرٌ من التطرف والمبالغة، أدَّت إلى هذا التورم القبيح في هيكلة البرامج في رمضان، في مقابل فقر مدقع في غيره من الشهور.