لقد أدركتُ لاحقاً أن الثقافة وهم كبير تجذر في أعماقنا، بينما هي مجرد قش يتطاير عن «المثقف» عند أول هبوب للرياح، وليس هذا ما آلمني في بادئ الأمر، لكن ما آلمني جداً هو انسلاخ هذا المعتقد عن ظني، بعد أن كلفني الكثير من التبجيل والتوقير والاحترام لمن يعتقدون أن الثقافة محصورة في فنون «الإتكيت» وترديد بعض المصطلحات من لُغاتٍ مختلفة، وحفظ عدد من أسماء فلاسفة الغرب ومفكريهم والانجذاب للآخر حد الاحتقار لكل ما هو عربي في أصله. ويمكن لمخالف حذق أن يُدرك ما أعنيه بكل بساطة، وسوف يتبيّن له أنني لا أعني مثقفاً بعينه ولا أوجه حديثي هذا للمثقفين الحقيقيين الذين مع الأسف أستطيع إحصائهم على أصابع يدٍ واحدة، كما أنني لا أوجهه للثقافة في أصلها الثابت، وإنما أعني الثقافة المُدعاة، وهي تلك النوعية التي غزت ساحاتنا الثقافية ومحافلنا الأدبية، وسيطرت على إعلامنا الذي مازال يحتفي بهم، فضلاً عن أنديتنا الأدبية. إن الثقافة تحمل دلالات أُخرى غير المعرفة والعلم، فيفترض بها أن تدل على هويتنا ورقينا ووعينا الاجتماعي والمجتمعي وإيماننا أولاً وأخيراً بالاختلاف البشري وخاصة في المعتقدات، كما أن عليها أن تهذب سلوكنا وتعاملاتنا مع بعضنا البعض وترفعنا عن سقطات الرعاع في معارك إثبات القوة والجدارة وسلطوية المنصب والمكانة العلمية والعملية. فالمثقف الحقيقي لا يجيد توجيه التهم، ولا يستطيع النزول من مكانته إلى مستويات أدنى من «أدبه» وسمو أخلاقه، كما أنه لا يشاهر ولا يماري بشهادته العلمية، وحين يحكم أو يُحاكم فإنه حكمه ومحاكمته تكون موجهة للنصوص وليس الشخوص. وما عدا ذلك كله فإنها «ثقافة مُدعاة» لا تُجمل صاحبها ولا تحث على تقديره واحترامه. ** ** - عادل الدوسري