(إن من البيان لسحرا) وهو في أصله حديث نبوي وقع في مجلس لرسول الله عليه الصلاة والسلام، حيث استقبل وفدا لبني تميم يضم الزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، وهما معا من وجوه قومهما وجاهة وبلاغة ومعزة، وجرى أن تكلم ابن الأهتم مثنيا على الزبرقان، غير أن الزبرقان كان يرى في نفسه أكثر مما قال ابن الأهتم، وأشار إلى أنه بخل عليه في الوصف، فرد صاحبه بكلام ذمه فيه، فتغير وجه رسول الله حين سمع تقلب الكلام في حضرته، وهنا بادر ابن الأهتم وقال: (والله يا رسول الله ما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الأخرى، ولكني رجل رضيت فقلت أحسن ما أعلم، وسخطت فقلت أقبح ما وجدت) وهنا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: إن من البيان لسحرا، (مجمع الأمثال، المثل رقم 1) وسارت الجملة مسارات ثقافية واسعة تتردد في وصف كل موقف بلاغي، وهي وصف لكل حالات البشر في علاقاتهم العامة، التي تقع في شبكات التقاطع البشري كله، وكلما رضي المرء عن صاحبه نشطت الذاكرة في انتقاء أجمل الصور المختزنة في الذاكرة والملتقطة من كافة المواقف، وحين تتكدر النفوس تتراجع الصور الوردية وتتقدم الصور القاتمة، ويأتي كلام يناقض السابق حتى ليبدو المرء كذابا أو مخادعا وغدارا، وكأنما قلب ظهر المجن لصاحبه - كما يتردد دوما - وهو قد قلب ظهر المجن فعلا، لأنه صار يقرأ الصفحات الأخرى من ملف عتيق مرصود في المخزن الذهني، ويجري فقط اختيار الصفحة الملائمة لكل موقف، تماما كما حدث من ابن الأهتم مع صاحبه، حيث كشف صفحة وردية، ثم كشف الأخرى القاتمة حسب مستدعيات الموقف. واليوم نشهد هذه علنا في إعلام الدول العربية حيث يشيع الود بين دولتين عربيتين، فترى إعلامهما يتشح بالورديات المتبادلة، وما إن تسوء العلاقة بين البلدين حتى تتحول اللغة إلى قتامة مرعبة، وكل الصفحات ينطبق عليها: رضيت فقلت أحسن ما أعلم، وغضبت فقلت أسوأ ما أعلم، مثله مثل ما بين الأفراد وتقلب الظرف بينهم. وتلك هي سيرة التداول اللغوي بين البشر.