يحدث عندما نتحدث مع الآخرين أن نضطر للسكوت عن الكلام، والتوقف بداعي الخجل أو الحزن أو المفاجأة أو الاحتجاج، أو للرضى كما يُقال في المثل، أو لحكمةٍ ما. ويحدث هذا أيضا في الكتابة، وغالبا الكتابة الذاتية، إذ يكتب الكاتب جملة ثم يتبعها بنقطتين أو ثلاث نقاط أو أربع، ثم يعود للكتابة بجملة أخرى متممة لسابقتها دون سبب منطقي، ويرى المدققون على علامات الترقيم ومهارات الكتابة أن هذه النقاط زائدة وخارجة عن قواعد الترقيم. فهل علامات الترقيم تقتصر على دلالة الجملة من استفهام أو تعجب، أو على حاجة الجملة للقطع والوصل والحذف، دون الاهتمام بما سكت عنه الكاتب وعبر عنه بنقاط أو نقطة؟ مثل السكوت أثناء الكلام عندما يعجز المتكلم عن نطق الكلمة؛ لالتياث الشعور، أو قصور التعبير بالكلمات عن الموقف، أو البكاء المتهدج الذي يسعى المتحدث لإخفائه، أو لدمعة طفرت من عينيه، أو الخوف أو التحديق في المدى أو المواقف متأملا ومختلجا للشعور الآسر لعظمة ما يرى ويشاهد، ولأن العبارة تصبح عَبْرة. الكاتب مثل المتحدث، يشعر بالمواقف ويتأثر بها، ويسكت دون سبب واضح، ولأن السكوت عن الكلام انقطاع الصوت فالسكوت عن الكتابة نقطة، والنقط بنقطتين أو ثلاثة هو زمن السكوت! والسياق الذي كتبت فيه هذه النقاط يُنبئ عن احتمالات التأويل وتوقع ما لم يُكتب، وقد يكون المسكوت عنه أبلغ مما كُتب، وذُكر في الدراسات والأمثال العربية بلاغة الصمت في السياق التخاطبي وذُكرت علامة الحذف في الكتابة، لكنها لا تشمل إشارتنا هنا للسكوت، فهذه النقاط لا تشير إلى كلام محذوف يُحال إلى مرجع واقعي، ولا تشير إلى التوالي المتوقع، بل هي نقاط تحيل إلى محذوف معرفي ووجداني في نفس الكاتب، وغالبا تكثر هذه النقاط عند من يقرر أن يكتب يومياته أو مذكراته فيسكت منقطا السطر. إن ما لا يقال يفوق ما يقال، وما لم يكتب ينحبس في علامات غير منطقية كهذه النقاط بين الجمل، أو في صوت حرف من كلمة، لكن هذا لا يعطي الحق للكاتب أن ينثرها في النص فتخرج عن سياق المسكوت عنه إلى عجز عن التعبير، لذلك نلحظ كثرتها عند المبتدئين الذين يكتبون خواطرهم فتبلغ عدد النقاط عدد حروف جملتين طويلتين، ولا شك أن الراغب في الكتابة السليمة سيواصل المران والاطلاع فتتضاءل هذه النقاط حتى تختفي، وتوضع كل كلمة في موقعها دون سكوت معلن، لكن أيضا إذا ازداد الإدراك والإحساس الناضج بالمحيط ازدادت الحاجة إلى مواضع للسكوت الحائر. لذلك أرى ألا تُهمل علامات النقاط بين الجمل، بل تُحمل محمل علامات الترقيم السابقة، ويُعترف بها علامة عن المسكوت عنه في النصوص الإبداعية، بل تُدرس دلالتها وأثرها في النص. إنَّ بعض النصوص القيمة تُنتج نصوصا مسكوتا عنها تتعلق في ذهن القارئ وتنشأ عنها، لكن المسكوت عنه الذي صرح به الكاتب في داخل النص بالنقاط يتعلق بالكاتب والسياقِ الذي ظهرت فيه، ودلالتها تعود إليهما.