اللغة الخاصة للخطاب النقدي الحديث لا بد أن نفهمها في سياقها المعرفي وسياقها التنظيري، وسياقها الحضاري حتى يمكن مقاربتها والتحاور اللذيذ معها. بعض النقاد الحداثيين العرب أدركوا هذه الحساسية اللغوية خصوصًا في لغة النقد الفرنسي فمارسوا الكتابة بما هي كتابة ووصلوا إلى ضيق العبارة وقلقها باتساع الرؤيا واندياحها، وبعض منهم لم يصلوا إلى الكتابة فظلوا يدورون حولها إلى أن أدركهم العياء في أنفسهم وأصابوا غيرهم بالدوران. إن لغة الخطاب النقدي صارت مع ما بعد البنيوية لغة متجاوزة لنفسها ومشتبكة مع نفسها كما هي مشتبكة مع النص المنقود وحينما نضرب مثلًا ببارت إنما نضرب مثلًا فبارت كالذبابة التي لو سلبتنا شيئًا لا يمكن لنا أن نستنقذه منها ولذا لا يمكن في مثل معالجتنا للكتابة البارتية إلا نقول ضعف الناقد والمنقود!! وهو ضعف جبلي، ولكنه ضعف مصنوع إذا أردنا أن من كتابتنا فقط أن تكون ببغائية الحروف وببغائية الشكل دون إدراك أصيل لشكل الشكل في أعماق معنى المعنى (ال - نحن والأنا والهو وال- هم) هو المدار الجديد للكتابة الجديدة ليس بما هي ضمائر تعود إلى مضمر بل بما هي علامات فارغة يظل امتلاؤها متحققًا في فراغها (إن المضمر فيها وليس فيها وهذا هو اللب الخارجي الذي ليس له لب في الداخل إلا هو) فالكتابة هي متحقق الذات بما هي كتابة، وبذلك ننتقل في ظل ما بعد البنيوية إلى مرحلة الكتابة التي ليست نقدًا بل هي كتابة وكفى. إن الظرف السياقي والظرف الحضاري الفلسفي الذي كانت تعيشه كتابات بارت كان يمثل قمة الجبل لتطور تأريخي وفلسفي توج بفرار من غير أن يكون هنالك من يطرد الفارين فرار من ماذا؟ فرار من العقلانية والتجريبية كلتيهما فإذا كانت العقلانية قد أسرفت في الاعتماد على البرهان العقلي وكانت التجريبية قد أسرفت في الاعتماد على التجربة المدركة بالحواس فإن الظواهرتية (الفينومينولوجيا) قد كانت الوسادة القاسية واللينة في الوقت نفسه التي أسندت إليها التفكيكية الرأس وهي مغمضة العينين فالظواهرتية (الفينومينولوجيا) بمفهومها العام كما يقول إدموند هوسرل «وصف خاص لمجال محايد هو مجال الواقع المعيش وما ينطوي عليه من ماهيات« ولكن ذلك الوصف يتم من خلال الشعور بما يكمن وراء الظاهرة والمنهج الفينومينولوجي كما يقول حسن حفني ينظر إلى الظاهرة كما تبدو للشعور، وهو جهد يبذله الباحث لفهم المضمون الشعوري الذي تنطوي عليه الظواهر، وفهم المعاني والدلالات الشعورية من خلال الموقف المعيش. وأول خطوة للمنهج الفينومينولوجي هي وضع العالم بين قوسين أو ما يسمى بتعليق الحكم «من أجل قلب النظرة من الخارج إلى الداخل واستبطانه لما يدور داخل ذاته«. ثم يكون هنالك الحدس الفينومينولوجي لإدراك الظاهرة كما تبدو لشعورنا من غير أحكام مسبقة للوقوف على الحياة الخاصة بهذه الظاهرة. لقد تأثرت كتابة ما بعد البنيوية وخصوصًا التفكيكية بالظواهرتية تأثرًا كبيرًا كمنهج فلسفي أتى ليؤسس لاتجاه جديد وكمحاولة لتخطي أزمة الفكر الأوروبي. هذا هو المناخ العام للكتابة البارتية يضاف إلى ذلك المناخ الفرنسي الخاص تقول فيه سوزان سونتاج (والتي سأعتمد عليها كثيرًا في هذا المقال): «إن عبارة بارت النموذجية معقدة، محملة بالفواصل، ومحمولة على النقطتين، ومشحونة بسلاسل من الآراء المعبر عنها بلغة مكثفة وكأن هذه الآراء مادة بناء نثر مرن. إنها طريقة فرنسية بشكل نوعي في بسط الآراء منسوبة للدراسات الصارمة ولنقد الكاتب الذي كانت تنشره بين الحربين La Nouvelle Revue Francaise. إنها متغيرة أسلوب دار الN.R.Fh التي تستطيع تمرير كثير من الآراء في كل صفحة مع الاحتفاظ بحيوية ووحدة الجرس«. وكان الكاتب متأثرا بل مؤسسًا للأسلوب الشافر للخطاب الثقافي الفرنسي الذي يسميه الفرنسيون (ديكارتيا). تقول بعد ذلك سوزان سونتاج عن المثل الأعلى الجمالي عند الفرنسيين والإنجليز من خلال الموضة (إن الفرنسيين ما شاطروا أبدًا اليقين الانجلو ساكسوني الذي يجعل من الموضة نقيض الجدي) ومن هنا نخرج إلى إمكانية الكاتب الأسلوبية وطرحه الكتابي النقدي من خلال تلك الإمكانية ذاتها فلقد تناول بارت نسق الموضة 1967 بالتحليل ليقول إن لغة الموضة هي الموضة فالموضة لا توجد إلا عبر الخطاب الذي يدور حول الموضة. ولأجل ذلك فان بارت يجعل من الكتابة شكل وعي معقدًا يكون فيها المرء فاعلًا ومنفعلًا في آن واحد اجتماعيًا ولا اجتماعيًا، حاضرًا وغائبًا عن حياته الخاصة وهو في كتاباته يؤثر التصنيفات الغريبة ليترك القضايا مفتوحة وليحتفظ بمكان للامشفر وللمفتون وللامتناول وللمسرحي إنه يتحدث عن «اضطراب وعن هيجان، وعن قشعريرة المعنى، وعن الدلالات التي هي عينها ترتج، وتجتمع، وترتخي، وتتشتت، وتنتعش، وتلمع، وتنطوي، وتدخل في التحول، وتتأخر، وتنزلق، وتفترق، وتمارس ضغطًا، وتقرقع، وتعوج، وتتشقق، ومتشظية«. إن كتابة بارت هي جزء من تنظيريه النقدي والفلسفي هو يمارس ذلك التنظير من خلال الكتابة، لأجل ذلك فإن الكثافة المجازية هنا هي ركن من أركان التفكيك ذاته وليست ملقاة عبثًا ولا عبئًا على العلمية كما يذهب إلى ذلك سعد مصلوح ربما تكون كذلك عند بعض المقلدين للنسخة الأصل ولكنه تقليد رخيص سرعان ما يتلف بضاعة للاستهلاك السريع لفئة من الزبائن المعدمين من الثقافة... أما في كتابات بارت فنصل إلى ديمقراطية النصوص التي تجعل لكل عمل مهما كان شكله وقيمته حق المواطنة في ديمقراطية النصوص الكبرى، وهو بكتاباته يمارس خروجًا عن النسق هو يجترح ذلك الخروج في ممارسته النقدية المنهجية اجتراحًا فكتاباته تغدو في الوقت نفسه منهجية من وجه وإبداعية من وجه آخر. أما الفضاء النصي للكتابة البارتية فهي «الكتابة على شكل المقاطع أو المشاهد أو نقط تصب في أشكال اعداد جديدة فئتية بدل خطية بالإضافة إلى التجميع يمكن وضع المشاهد في مكانه بطريقة اعتباطية. يمكن مثلًا ترقيمها، وهو منهج استعمله بمهارة فيتنجشتاين أو يمكن إعطاؤها عناوين، عناوين ساخرة أو تتسم بالمباغة أحيانًا وهي الاستراتيجية المتبعة في رولان بارت«. الكتابة هي لدى بارت نموذج للحرية «فليس الالتزام الذي تتخذه الكتابة حيال شيء خارجي (حيال قضية أخلاقية أو سياسية) هو الذي يجعل منها أداة معارضة وتدمير ولكنه نوع ممارسة الكتابة ذاتها». إن بارت يحتفل في تنظيره وفي كتاباته نفسها بالعلامات الفارغة التي تقول كل شيء ولا تقول شيئا، في الوقت نفسه يحتفل بالحضور في الغياب نفسه ليس هنالك ثنائية نمطية مبتذلة ليس هنالك سطح وعمق بل هنالك سطح فقط وسطح آخر. إن جمالية الغياب والعلامة الفارغة والذات الفارغة والإعفاء من المعنى كانت تشكل جزءا من كتابات رولان بارت ومن نقده الما بعد بنيوي، وبارت كما تقول سوزان سونتاج: يتخذ كنقطة الانطلاق للنموذج الحديث للكتابة والذي يتموقع فوق كل فكرة مسبقة أو مجرد حذلقة قناع«. وكما تقول أيضًا: كان بارت كالجماليين الكبار أستاذًا في فن عدم إقصاء أي شيء. وهكذا يماهي الكتابة في نفس الآن بعلاقة سمحة بالعالم (الكتابة بما هي إنتاج متجدد وبعلاقة تحدٍ الكتابة بما هي ثورة مستمرة في اللغة). فهل من كاتبينا من يمارس الكتابة بمثل ما يمارسها رولان بارت لا أقول لمن يكتب وهو لا يدري ما يكتب إلا ما قاله امرؤ القيس: فدع عنك نهبًا صيح في حجراته ولكن حديثًا ما حديث الرواحل أستاذ اللسانيات المشارك - جامعة الباحة