كنا في اجتماع الأسرة الأسبوعي يوم الجمعة، رفع الشيخ منصور -رحمة الله عليه- رأسه، وطلب منا أن ندعو لفلان وفلان، قال إنهما في العناية المركزة في المستشفى؛ وبحاجة لدعائكم.. التفت إلى عمي منصور بعد قليل، وكانت شفتاه لا تزالان تلهجان بالدعاء بصوت خافت.. لم أكن أعلم أن نظراتي له ستكون نظراتي ما قبل الأخيرة لرجل على وشك الرحيل. بعد ثلاث ليال بدأ المرض يظهر على شيخنا.. يذهب إلى المستشفى.. يخطئ الطبيب في وصف حالته.. يعود إلى البيت متعبًا مرهقًا.. ينقل للمستشفى مرة أخرى، ثم يأتي الخبر المفجع بأن الشيخ منصور في العناية المركزة؛ وبحاجة لدعائنا. لم يعلم -رحمة الله عليه- أنه سيكون مع مَن دعانا للدعاء لهم، بل إنه سيسبقهم إلى رحمة الله وفضله. ظل شيخنا الجليل يجري في حوائج الآخرين ومساعدة المحتاجين حتى تعب جسده.. لم يتردد يومًا في أداء واجب أو تلبية دعوة أو مشاركة الناس في أفراحهم وأتراحهم. رحل الشيخ الفاضل، وبقيت أعماله، وبقي ذكره الطيب على ألسنة الناس وفي ذاكرتهم. عمل الشيخ منصور في القضاء وفي الدعوة أكثر من ستين عامًا. كان درسه الأسبوعي منهاجًا لكل من تتلمذ على يده، وكان عمله جامعة شاملة لكل من عمل معه أو عرفه عن قرب. لم يكن يهتم بزخرفة الدنيا ومغرياتها.. ظل ساكنًا في المنزل نفسه رغم أن الجميع نزحوا، وانتقلوا إلى مناطق أخرى، بل إنه لم يغير سيارته القديمة، وكان رده دائمًا إن «السيارة قايمة بالحاجة». مئات القصص التي سمعناها من زملائه الذين عملوا معه، تحكي عن عالم رباني، لم يسعَ للدنيا، ولم تكن تساوي عنده مثقال ذرة. جاءه من يسعى لتعديل حكم كان قد صدر فكان جوابه «وماذا أقول لربي؟». ويحكي أحد القضاة أنه جاء من يقول له إن الشخص الذي صدر حكم بخصم ثلاثة آلاف عليه فقير ومعدم؛ لعله يغير الحكم؛ فقام - رحمة الله عليه - بإخراج مبلغ ثلاثة آلاف من جيبه، ووضعها في وسط المعاملة، وقال: «ما دام فقيرًا ومحتاجًا فهذه مني صدقة. أما النظام فلا بد أن يطبَّق». الشيخ منصور ليس فقيد أسرته ورفاقه فحسب، بل هو فقيد وطن.. وعندما رحل جاؤوا من كل مناطق المملكة ومن خارجها؛ ليصلوا عليه، وليشيعوه إلى مثواه الأخير، تسبقهم دموعهم، وعبرات مخنوقة، ودعوات حارة بأن يسكنه الله الفردوس الأعلى في جنات النعيم. هكذا رحل عمي الشيخ الفاضل، وهكذا يرحل الطيبون. ** **