من علامات الإيمان أن يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه؛ فعن أنس قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». وديننا يحث على مكارم الأخلاق، وحسن التعامل مع الآخرين. وفي الآونة الأخيرة انتشر سلوك ذميم في أواسط المجتمع، وهي صفة ليست من صفات المسلم الملتزم بالأخلاق الإسلامية، بل هي من صفات النفس الظالمة الحقودة.. هذه الصفة السيئة كثرت في المجالس والمنتديات، وازدادت حدتها في وسائل التواصل الاجتماعي. والشماتة مظهر قبيح، يتنافى مع مبدأ الأخوة الإيمانية التي تقتضي مشاركة الأخ في آلامه وآماله، وتتنافى مع تحريم أعراض الآخرين. ولأن الشماتة خلق ذميم، وسلوك قبيح شائن، يدل على نفس غير سوية، نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أكثر من مناسبة؛ فعن ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تؤذوا عباد الله، ولا تعتروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته». ولأن الشماتة خُلق مذموم، يتصف به البعض من الناس، بل من الصفات الأساسية الراسخة في نفوس من «إذا خاصم فجر»، تحدث عنه عدد من أصحاب الفضيلة.. فماذا قالوا؟! لا تراقب الناس يقول معالي الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد المستشار بالديوان الملكي عضو هيئة كبار العلماء إمام وخطيب المسجد الحرام: إن الشماتة خلق ذميم وسلوك شائن، يدل على نفس غير سوية، وقلب مدخول، يكاد يخلو من الحب والمودة والعطف وحب الخير.. وغالبًا ما تقترن الشماتة بمظاهر كريهة من السخرية والهمز والغمز واللمز وألوان الاستهزاء قولاً وفعلاً وإشارة. والشماتة فرح ببلية مَن تعاديه، والسرور بما يكره مَن تجافيه، مستشهدًا بقول أهل الحكمة «إن الحسد والشماتة متلازمان؛ فالحاسد إذا رأى نعمة بهت، وإذا رأى عثرة شمت». وخاطب د. صالح بن حميد المبتلى بالشماتة قائلاً: عافاك الله من هذا الداء، وهداك كأنك تزهو بكمالك، وتفاخر بجمالك، وتغفل عن موادعة الأيام لك، وتظن أن هذا المبتلى لم يبتل بما ابتلي به إلا على كرامة في نفسك، أو بسبب إجابة دعوة منك أو من غيرك، فهذه تزكية، وعُجب، وغرور، وغفلة، بل قد يكون استدراجًا ومكرًا - عياذًا بالله - أما علمت أن الشماتة قد تكون انعكاسًا لأمراض نفسية، تدل على عدم الثقة، مع الإحساس بالفشل، فتسلي نفسك بهذا الخلق الذميم.. والشامت محروم من المحامد الجميلة، والمسالك الراقية، والشعور الإنساني النبيل. وحذر د. صالح بن حميد المسلمين قائلاً يا عبدالله: لا تراقب الناس، ولا تتبع عوراتهم، ولا تكشف سترهم، ولا تتجسس عليهم، اشتغل بنفسك، وأصلح عيوبك، فلن تُسأل بين يدي ربك إلا عن نفسك، والله أرحم بك وبهم منك ومن أنفسهم.. بل إن المؤمن الصادق المخلص يحب أن يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به على حد قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» رواه البخاري. ويقول ابن رجب - رحمه الله -: «إنما يحب الرجل لأخيه ما يحب لنفسه إذا سلم من الحسد، والغل، والغش، والحقد». ودعا فضيلته أهل الإيمان أن يدعوا الأحقاد، والأضغان، وأن يتجنبوا الشماتة بإخوانهم؛ فذلك مجلبة التفرق، والتنازع، والتنابز بالألقاب، والبغضاء. وتساءل كيف تصدر الشماتة من مسلم وهو يقول في ورده كل صباح: «اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر»؟ فحق أن يعكس هذا الذكر صفاءَ قلب المؤمن، ورحمتَه، ومودتَه للخلق كلهم، فضلاً عن أن يحب أن يحيق بالناس كرب، أو بلاء، أو تعاسة، أو مكروه، ولا تجتمع الرحمة الغامرة مع القسوة الشامتة. إنما المؤمنون إخوة ويشير المهندس عبد العزيز بن عبدالله حنفي، رئيس الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بجدة، إلى أن من أوثق العرى التي وطدها الإسلام، وجاءت الآيات والأحاديث الشريفة للتشديد عليها، وحث المسلمين على تنميتها وتواصلها، هي الأخوَّة بين المسلمين.. قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}. ولهذه الأخوة مقتضيات كثيرة تترتب عليها، لعل من أهمها تجنب الشماتة بالمسلم؛ لأنها لا تصدر من قبل ملاءة الإيمان.. والشماتة هي الفرح بمصيبة الآخرين؛ فهي تأخذ شكل المجاهرة والوضوح؛ ولذلك فهو يماثل ما يصدر من العدو تجاه المسلم في المصائب؛ لأنه شعور ظاهر واضح بالفرح والغبطة تجاه ما أصاب أخاه المسلم. والشماتة - بلا شك - خُلق وضيع، يدل على ضعف صاحبه، ولا ينم عن شجاعة أو رجاحة عقل واتزان؛ لأن ذلك الفرح الذي يُظهره المرء يدل على خبث السريرة، ويتنافى مع ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله «لا تُظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك»، وكذلك ما ورد في الحديث الصحيح الذي أعلنه الرسول - عليه الصلاة والسلام - في خطبة الوداع على رؤوس الأشهاد، وكان ذلك بمنزلة التشريع في تأكيد حرمة المسلم.. وتضمن الحديث حدودًا وخطوطًا عدة، لا ينبغي تجاوزها، ومنها قوله «كل المسلم على المسلم حرام». وهذا توجيه شامل يندرج تحته تحريم الشماتة. ولنا في رسول الله أسوة حسنة؛ فهو لم ينهَ عن شيء إلا وبان شره، ولم يأمر بشيء إلا وبان خيره وفضله؛ لذلك فالشماتة لا يكتسب صاحبها من ورائها أي منفعة أو مصلحة، بل يكون بها قد اقترف إثمًا نُهي عنه، وأساء لإخوانه. ويضيف م. عبدالعزيز حنفي بأن نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الشماتة يوضح ضررها البالغ على نفسية المصاب؛ فمن ابتلاه الله بمصيبة في نفسه أو ماله أو ولده وأهله ينتظر من إخوانه المسلمين العون والمؤازرة والوقوف معه في مصيبته ومواساته، وتذكيره بالصبر على أقدار الله؛ ليتمكن بذلك من تجاوز آثارها.. فإذا فوجئ بمن يظهر له الفرح والمسرة بتلك المصيبة زادت كآبته، وتألم لذلك أشد الألم؛ ولذلك كان بعض الصالحين يوصي أهل المريض الذي شارف على الموت ودخل في مرحلة الاحتضار بألا يسمحوا لمن لا يحبهم أو بينهم وبينه عداوة بالدخول عليه في تلك الحال العصيبة؛ حتى لا يحزن المريض لرؤيتهم وبنظراتهم الشامتة وابتساماتهم المستترة.. لذلك لزامًا على كل مسلم أن يحفظ حقوق أخيه المسلم، ويناصحه، ويواسيه، ويقف معه في الملمات والخطوب، ويدرك أن الأيام تتبدل، والأحوال تتغير، وقد يناله شيء من المصائب والأحزان والفواجع؛ فتدور عليه الدائرة، ويشمت به الناس كما كان دأبه معهم؛ فالواجب أن يعلم أن مقدِّر الأقدار هو الله، وما أصاب الناس من خير أو شر فإن الله - عز وجل - كتبه وقدَّره قبل خلق السماوات والأرض؛ فلا مجال للشماتة بمصائب المسلمين، ولا الفرح بفواجعهم ونكباتهم، بل المنتظر من المسلم أن يتألم لألم إخوانه، ويفرح لفرحهم انطلاقًا من قوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى». الشماتة ويبيّن الشيخ عمر بن عبدالله المشاري السعدون كاتب العدل والباحث الشرعي أن الشَّماتة كما قال أهل اللغة معناها: فرحُ العدُوّ ببلّيةٍ تنزلُ بمعاديهِ. وقد ورد نهي المسلم أن يشمت بأخيه المسلم، ويفرح أو يضحك مما ينزل به من بلاء أو مكروه؛ لما في ذلك من إحزانه وأذيته بغير حق. وقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (الأحزاب:58). وهذا خلق ذميم؛ يجب أن يربأ المسلم بنفسه عنه. ولأنه لا يكمل إيمان أحدنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تظهر الشماتة لأخيك، فيعافيه الله ويبتليك». رواه الترمذي وقال: حسن غريب. وضعفه الألباني في تحقيقه رياض الصالحين. وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منها، ويقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوَذُ بِكَ مِنْ سُوءِ الْقَضَاءِ، وَدَرْكِ الشَّقَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ». رواه البخاري. ومَن عَيّر أخاه بشيء مما يكره من ذنب أو غيره يوشك أن يقع هو في ذلك الذنب أو المكروه.. جاء في شرح السنة للبغوي: وَرُوِيَ عَن خَالِد بْن معدان، عَن معَاذ بْن جبل، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن عيّر أَخَاهُ بذنب لم يمت حَتَّى يعمله» وَإِسْنَاده غير مُتَّصِل. وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ الشَّامِيِّ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لأَخِيكَ فَيَرْحَمُهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ» وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَوْ سَخِرْتُ مِنْ كَلْب لَخَشِيتُ أَنْ أَحُورَ كَلْبًا. وقال ابن القيم في مدارج السالكين عند قول الهروي: وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ عَيَّرْتَ بِهَا أَخَاكَ فَهِيَ إِلَيْكَ. يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهَا صَائِرَةٌ إِلَيْكَ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَعْمَلَهَا. وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ». قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ: «مِنْ ذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ». وَأَيْضًا فَفِي التَّعْيِيرِ ضَرْبٌ خَفِيٌّ مِنَ الشَّمَاتَةِ بِالْمُعَيَّرِ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا مَرْفُوعًا: «لَا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيكَ فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَكَ». ويضيف السعدون قائلاً: للمظلوم مع ظالمه ثلاثة خيارات: 1 - العفو عن الظالم رجاء ما وعد الله به من الأجر العظيم والثواب الجزيل. 2 - عدم العفو واحتفاظ المظلوم بحقه ليلقى الظالم عقابه من الله تعالى عاجلاً أو آجلاً. 3 - أخذ الحق ومقابلة السيئة بمثلها دون زيادة. وأفضل هذه الخيارات هو الأول. وما أجمل سلوك الأدب الشرعي عن رؤية المبتلى سواء بمرض أو عاهة أو مصيبة، حتى لو كان ظالما لك، بأن تقول الدعاء المأثور «الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاه به». لعل الله أن يعفيك من هذا البلاء، ومن الشماتة التي قد تؤدي للبلاء. أما الحقد والكراهية والشماتة بالمصاب والفرح ببلاء المبتلى.. فليست من أخلاق المسلم، ولا ينبغي له أن يطوي قلبه على هذه الأخلاق المذمومة، بل ينبغي له أن يتذكر قول الله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (النور:22)، وأن يجعل أبا بكر -رضي الله عنه- قدوته في ذلك، فعندما نزلت هذه الآية تنازل عن مظلمته، وقال: «بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي»؛ فأعاد إلى مسطح النفقة التي كان يجريها عليه وقطعها عنه بسبب ظلمه لابنته السيدة عائشة - رضي الله عنها -. والأثر في الصحيحين وغيرهما. وإذا عالج المسلم نفسه -بعد العفو- ولم يستطع أن يتغلب على ما يجده فيرجى أن لا يكون عليه إثم ما لم يعمل أو يتكلم؛ لأن الله تعالى تجاوز لهذه الأمة عما في قلوبها ما لم تعمل أو تتكلم.