بالتَّحية الزَّاخرة مرحبًا بكم معاشر القرّاء .. (مضى طاهر الأردان) لم أكن أعلم حقَّ العلم الأثرَ الذي يخلفه اندكاك الجبل الأشمّ، ولم أعرف حقَّ المعرفة المشهد الذي يخلفه قلع الشجرة الفيحاء، لا ولا وجه السَّماء إذا هوى نجمه السَّاطع .. كيف يكون ذلك المشهد بعدُ كيف؟! سؤالات حيرى. لقد كان الجبل ملاذًا يأرز إليه الهارب الكارب، ويعتصم به العائف الخائف، ويأوي إليه المستجمّ الهادف، ويلوذ به المحتاج، ويسكن إليه راغب في الانقطاع إلى نفسه والخلوة بذاته. والشجرة كذلك مستظَل، ومطعم، ومطمع يفد إليها الإنسان المنادي، والطير الشَّادي. والنَّجم وما النَّجم؟ لمعان وقَّاد، وهداية وإرشاد= ما أعظم الفقد، وما أشد الوقع بزوال الجبل العاصم، واقتلاع الشجر الوارف، وهوي النجم السامق، وإنَّ لِنقصهن لَأثر أشدد به من أثر!. (مضى طاهر الأردان) لقد كان جبلًا في الحلم, جبلًا في العلم، بحرًا في النَّظر، حبرًا في البصر، حجَّة في المقال، غالبًا عند النزاع، ظاهرًا لدى حَدَمة الجدال؛ يتكئ على علم وافر, ومعرفة واضحة، وخبرة ساطعة، ودراية بمسنونات الأحكام، ومرسومات النِّظام، فهو الغلَّاب في أي منزع يدخل فيه، يتخذ لذلك ما سبق دريئةً ينتصل دونها، ويراشق بها، وله ديدبان يتهدّى دلائله= ذلك أنَّه لا يلج بابًا إلا مع عرفان المخرَج المخرِج، ولا يداخل في شيء إلا عندما يرى وهج الحق فينطق به؛ لذا له الغلبة عند صيال الحجج واعتلاج البراهين، فالنُّجح حليفه، وصواب الرَّأي أليفه. وإذا غالبه مخاصم للجدل لا للعدل والحقِّ ترك المخاصم على هويناء رأيه وسفسطاء جدله يلعلع به حتى يقطع نفَسَه بنفْسِه، أما هو فينسلُّ من ذي القالة والمنازعة حينما يرى ذلك لددًا في الخصومة، وليس فيه تَطلاب حقٍّ، فهو في غنى عن المراغمة في هذه المقامرة. (مضى طاهر الأردان) لقد وهبه الله سلاسة الكلام، وعذوبة اللفظ, وحسن المنطق، وجمال النغمة، وهدوء العبارة، ورزانة تدفق الكلمات والجمل، فهي تنثال على لسانه انثيالًا، ويتدفَّق الحديث من فيه تدفّقًا طريًّا نديَّا= يعجبك مستمعًا، يقنعك منتفعًا, يسعدك مبتهجًا، تصيخ إليه منجذبًا، تنهل منه مستهمًا، يُستلهم منه الاقتداء، ومن طريقته الايتساء. وأما حديث لغته فحديث عجب فلغته لغة فصيحة طاهر لفظها، ظاهر نحوها، مكسوّة بالبلاغة بهاءً، مستظلة بالفصاحة رواءً، وليس ككلام مصحِّح، ولا كلام مدقَّق، بل انسيابٌ فصيحٌ صحيحٌ لغةً ونحوًا وصرفًا بلاغة شعرًا أو نثرًا، كل ذلك بلا كلفة يستطلبها، ولا بجهد يبذله، بل تنباع لغته على لسانه انبياعًا، وتترسَّل من خاطره ترسُّلًا ماتعًا برَّاقًا. فلله تلك ما كان أحس ما يقول!. (مضى طاهر الأردان) كثيرًا ما رأيته في ممرات كليَّة اللغة العربيَّة غاديًا رائحًا لا في خدمة نفسه وجدول درسه لا لا، بل في خدمة طالب محتاج، أو من أجل أنَّه شاهد قصورًا في جهةٍ من جهات كليته يسوؤه ما يراه قِبَلها، أو في فكِّ عِقابٍ تعترض طريق تنفيذ قرار أو تفنيده أو في تحرير مطلب لكليته وتقريره= كان جهده لغيره لا لنفسه، فهو في ما كان لغيره أشد ما يكون، وأسدّ ما كان يسعى ويقول، يروم أشياء ويغالب أمورًا ازدهد فيها غيره. كان عزوفًا عن الإخلاد للنفس، وتذاوق إياها طعمة التذاذها، فلديه نكران للذات عجيب وصدود عن حصائل ما للنفس غريب، بل هو عَكوف على أبواب نفسه وغيره ممّا نفعه لغير نفسه، وحظّه لحظوة سوى ذاته، لقد كان نسيج -والله- وحده. (مضى طاهر الأردان) إذا جلست إليه خامرك الوقار، وحادثتك نفسك ب: هذه مجالس الفَخار، وازدهاك سَبَل الخير متدفِّقًا، وغيث النفع مترفِّقًا، حديثه يصدر من خاطر بهَّاج، ومن منزع مترعٍ ثجَّاج، يزينه الفصاحة والبراعة فكأنَّه نقش يُتحرَّى أو رقش يُتقرَّى معطَّر بالأدب الجمِّ والخلق السَّمح. يجاذبك أطراف الحديث ويناولك أهداب الكلم كأنَّك من زملائه أهل العهود، أو من صحبته لك معه عقود، وأنت إياك في سِنِيّ أبنائه أو صغير طلاّبه- فلله تلك المجالس ما أبرَّها!- لا يضنَّ عليك بشيء بل يعطيك ما تريده وزيادة، يعطيك صفاء خلاصة القول في المسالة، ويبتدر إليك بذلك ابتدارًا، لا يستنكف منك ويوعز إليك أنَّ هذا القول فوق المستوى أو لم تصل إلى رتبة أن أحادثك به، هو لا ينزل مُجالسه المنزلة الدنيا، بل يضعه في منزلة المساوي له، وربما النِّد له، والشَّريك له في القول والفهم= يورد عليك أقوال كبار الأدباء، ويسوق لك كلام أهل الثَّقافة والفكر في ذلك قديمًا وحديثًا، وكل حديثٍ يربطه بنظيره، وكل حجَّة يسلمها لمحجّة، والقول يلحقه بشبيهه في قدرة عجيبة ومَلَكة فريدة. (مضى طاهر الأردان) كلامه في اللغة والنَّحو ككلامه في الأدب والنَّقد حديث جادٌّ، حديث أستاذ يوجعه ما يراه من عزوف الطُّلاب ونكدهم من مقرَّرات النَّحو، يؤلمه ذلك فيعتلك هذا الألم على مض ضٍ بالصَّبر والسعاية لإيجاد الحلِّ. يستنطق لغة الطلاب وثقافتهم وقت المحاضرة وخارجها، وفي درسه بشكلٍ أوضح يُسائل الطلاب عن الإعراب، ويرغب إليهم خوض معتركه، وإذا رأى قصورًا بادره بعلاج، ودلَّهم طرق ذلك وطرائقه، وأرشدهم إلى ما فيه تقوية ضعفهم ورأب صدعهم، وإن رأى تميُّزًا عند أحد منهم راعه ذلك وسرَّ به، وأجلب به مرحِّبًا بهِجًا فرِحًا. لقد حادثني ذات مرّة أنَّه في إحدى محاضراته وقع على طلابٍ ممَّن يدرسون عنده يحسنون الإعراب غاية الإحسان على خلاف بقية زملائهم، فاستبان منهم بعد سؤالهم عن سرِّ هذا التَّفوق، فأخبروه أنَّهم نقلوا حديثًا إلى كلية اللغة العربية هنا، وأنَّهم في كليتهم وجامعتهم التي انتقلوا منها كان يخصّص محاضرة من محاضرات مقرَّر النَّحو للإعراب خاصًّة، فما كان من الرَّاحل الفقيد إلا أن امترس بهذا الرَّأي، وعرضه على رئيس قسم النَّحو والصَّرف وفقه اللغة، ورُغب إليه أن يعرضه على مجلس القسم عندما ينعقد فلبَّى رغبتهم وحقَّق طِلبتهم؛ فحضر مجلس القسم, وألقى على زملائه من أساتذة قسم النحو ما لقيه وما كشفته له محاوارته مع طلابه، وأنَّ هذا الصَّنيع فيه نجحٌ ومعالجة ما يعانيه الطلاب من مشكلة الإعراب= فكان الرَّاحل الفقيد بهذا صاحب مبدأ وصاحب رسالة طَلَبًا لرقيِّ كليته ومَن ينمَى إليها من طلاَّبها ومسوؤليها. لا أضاع الله له جهدًا، واستبقاه له ذخرًا. (مضى طاهر الأردان) كان وَلوعًا ببلاده نجدٍ ورباها نبتها ونداها، وزهرها ونواويرها، لقد سألني مرَّةً عن شجرةٍ من أشجار البرِّ هل سبق لي السماع بخَبرها أو خُبرها في ربوعنا بحائل؟ فلمّا ترددت ومهمهت وغمغمت بحديثي بالإيجاب والنَّفي ثم استقرَّ قولي بالنفي غير أنَّي وعدته بسؤال الكبار عنها، فقال: لا تتعب نفسك لن تجد لها خبرًا ببلادكم، هي شجرة بريَّة لا تنبت إلَّا في ديارنا (الدّلم) وما حولها خاصَّة. وذكر لي أنَّه شارك في إعداد موسوعة عن نباتات الجزيرة العربيَّة وبلادنا السُّعودية تقوم عليها دارة الملك عبد العزيز كما ذكر لي -على ما أظنُّ- وأنَّهم اجتالوا أرض نجد والشَّمال وبقية مناطق المملكة يقفون على النبتة يوثِّقونها صورة، ويذكرون اسمها القديم والحديث والاسم العلميّ لها. (مضى طاهر الأردان) كان ذا حَدَبٍ على الطلاب وإحسان إليهم يعطف عليهم بأبوَّة حانية يعاملهم كأبنائه، يسعى في خدمة مَن تبيَّن له لحوق التَّقصير في حقه من الكلّية بمرافقها، أو مَن ناله ظلم أو طغى عليه حيف من أحدٍ صغيرًا كان أو كبيرًا، لا يتبرَّم بل يسعى جاهدًا لحلِّ المشكلات، وفك عقد المستشكلات = يفرح إذا انحلّت مشكلة ويبتهج إذا عاد الحقُّ إلى نصابه. ومن خوافي صنعه سؤاله عن أحوال الطلاب الماديّة، ومن فضائله أنَّه كان يبذل للمحتاج من طلابه من ماله يعطيه ما يفك عوزه، ويتخلّص به من عوقه حتى يجتاز به الطالب قاسي ظرفه. كم مرةٍ سمعته ينادي ويرجو ويرغب في عدم قطع المكافأة عن الطُّلاب في الجامعة، وألَّا يحاكم الطَّالب بها إلى معدَّله، ولا إلى سنيّ دراسته، وهذه المرجاة منه لِما لامسه من أحوال أبنائه الطُّلاب، وما فاتشوه به من أخبارهم، وما فتحوا له من صفحات أسرارهم، وما يَلهَدُهم من عوزٍ جرّاء قطع المكافأة عنهم. (مضى طاهر الأردان) لقد كان سبَّاقًا في الخيرات عزوفًا عن المغريات قال في حاله العربيّ الأوَّل: وإن مدَّت الأيدي إلى الزَّاد لم أكن *** بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجلُ رحمة الرَّحيم الرَّحمن ومغفرة المتفضِّل الدَّيَّان على روح الدُّكتور: عبد العزيز بن محمَّد الزِّير الطَّاهرة كان أبيَّا سميدعيًّا، وأديبًا ألمعيَّا ترك دار الفناء ورحل إلى دار البقاء= قدم إلى ربِّ رحيم، ووفد على ملك برٍّ كريم لا تضيع عنده الودائع، ولا تخترم لديه الأمانات، ولا يُنقص عنده من ذخائر الطاعات، بل تزيد بل تزيد. أحقًّا مضى طاهر الأردان! .. اللهمَّ أنر له قبره، واجعله فيه في نعيم وبسطة، في روضة من رياض الجنان، اللهمَّ اكتب كتابه في علِّيين مع الأنبياء والصِّدِّيقين والشُّهداء، اللهمَّ بارك له في عقبه، واجعلهم به بَرَرة كرامًا ككرمه يا كريم. اللهمَّ استبق مودَّته في قلوب محبيه، اللهمَّ لا تنسنا محبة أحبابنا، اللهمَّ أبقِ ذكره حاضرًا، وفضله وافرًا بجاهك وفضلك ومجدك يا ذا المجد والإنعام يامَن يرجَّى لكلِّ أمرٍ يرتجَى، ويستطلب لكلِّ صعبٍ يرتقَى. وداعًا .. والدَّمع على فقد الأحباب منسكب. فهيد بن رباح الرَّباح - أكاديميّ بجامعة الإمام محمَّد بن سعودٍ الإسلاميَّة.