الاستماع والكلام، والقراءة والكتابة، ولكن المنهاج الدراسي التقليدي، أخل إخلالا كبيراً، بمهارة الكلام ومهارة القراءة، وهما مهارتان شفويتان. فالدارسون في ظلاله لا يكادون يفلحون في القراءة والتعبير الشفوي، على أنهم يحنون ظهورهم على مناضدهم، آناء الليل والنهار، في منازلهم ومدارسهم، ويكتبون الصحائف، ويسودون الدفاتر، فإذا قرأوا تعثروا، وإذا تكلموا جمجموا، وأصيبوا بالعِيِّ والحَصَر، فضعفت مهارة الطلاقة، وتلاشت السليقة من ألسنة الدارسين حتى في كليات اللغة وأقسامها، وهذا يدل على أن الأخطاء، ليست بسبب جهل القواعد، بل بسبب ضعف التمرس الشفوي على اللغة. أساس اكتساب اللغة الأول، هو الاستماع إلى نماذجها الجيدة، من النثر الشفوي، ومن النثر المقروء، ومن الشعر المنشد. لأن "السمع أبو الملكات اللسانية" كما يقول ابن خلدون. ولا ريب أن القراءة والكلام، هما أساس اكتساب اللغة بعد السماع، وبهما تشترك حواس عديدة في التذوق، كالسمع والنطق والبصر، وهذا يؤدي إلى إدراك وزن الجمل والايقاع، والنطق الصحيح العفوي بالأصوات اللغوية، وما فيها من نبر وتنغيم، والتعود على نطق الجملة الواحدة بنفس واحد، فإن طالت قسمت حسب الايقاع والمعنى معا، فإن تعذر الجمع بينهما، روعي الإيقاع، كما هو واضح في فواصل القرآن الكريم، لأن الوقوف على أجزاء الجملة، يساعد على تذوق اللغة. حرص أجدادنا القدامى، على تمييز ثلاثة أنواع من القراءة: الأولى: قراءة التغني، وقد ورد في الحديث الصحيح: "تغنوا بالقرآن"، والتغني قراءة فيها مد ولين، وتنغيم وتلحين، كقراءة القراء كعبد الباسط رحمه اللَّه. وكان الأولون يتغنون بالشعر، ومن أجل ذلك جاءت صلة الشعر، ب "الحداء" و"الغناء". وكان "الحداء" غناء شعبياً عاماً، كما قال أبو النجم العِجْلي: تغني فإن اليوم يوم من الصبا غنى امرؤ القيس أو عمرو وكان غناؤهم بالشعر على نمطين: النمط الأول: النصْب وهو غناء الركبان، ويستعمل في المرائي، وكله من بحر الطويل. والنمط الثاني الهزج، وهو غناء خفيف راقص، لعله يشبه أغاني الزفاف والعرضات الشعبية، وما يردده العمال الزراعيون، على دقات فأس أو مسحاة، في حرث حقل أو حفر بئر. ويردده الذي يمتح ماءً من بئر، ويردده البناؤون حين يتقاذفون اللبن والطين. القراءة الثانية: قراءة التجويد وهي قراءة المجودين أصوات اللغة، كقراءة الحصري - رحمه اللَّه، ولذلك سمى التجويد تجويداً، لأنه يجود الأصوات ويعنى بمخارج الحروف. ولذلك سمّى الأولون قراءة الشعر إنشاداً، لأن الصوت به يرفع، والإنشاد وسط بين القراءة والتغني. القراءة الثالثة: قراءة الهذ وهي القراءة السريعة التي لا تكاد تبين مخارج الحروف، وهي علامة القدرة على القراءة المتمكنة، وبها يتعود الدارس على سرعة الكلام أي الطلاقة. - ومن أنواع القراءة التي يهملها الناس: القراءة المعبرة، التي تنغم وتنبر الأصوات، ليتضح الخبر من الإنشاء، والوقف من العطف، وأسلوب اللطف من العنف، وأسلوب الحماسة من اللين، وأهملها كثير من الناس، حتى في قراءة القرآن الكريم. إذ تجد القراء يتلون القرآن تلاوة رتيبة، لا تبين إنشاءً من خبر ولا تعجبا من تقرير، على أنها من الأمور المعروفة بداهة في النص الشفوي، المهملة في النص الكتابي. وإن حاولت علامات الترقيم أن ترشد إليها، ولكن ضعف تطبيقها، وقلة الإحساس، بأن النص اللغوي شفوي أولاً، قد ساعد على هذا الإخلال. ومن أجل ذلك لا يكاد القارىء يفرق بين إنشاء وخبر، أو أمر ونهي، بل يتلو النص بمستوى واحد، من الأداء. واستمع إلى أحد القراء، وهو يقرأ أي سورة كسورة النبأ، تدرك مقدار الإخلال بالقراءة المعبرة. ومن أجل ضعف الطلاقة، تجد كثيراً من الناس، يقرأ الكلمة مفردة، فلا يكاد يخطىء، فإذا انتظمت في الجملة أخطأ وتعثر فيها، ولا سيما في قراءة الشعر أو إنشاده، فإذا أصلح كلمة، أخطأ في أخرى، وهذا يدل على أننا أحيانا كثيرة، نملك القدرة اللغوية، ولكننا لا نملك الطلاقة، لأن القدرة نتيجة الإدراك العلمي، والطلاقة نتيجة الممارسة العملية. لقد تحول مقرر القراءة وهي مادة شفوية أصلاً، إلى مقرر مطالعة، في المنهاج التعليمي، لتعليم العربية، يحشى بالمعلومات والقواعد، وهذا سبب مهم في بلبلة المهارة اللغوية، في مراحل التعليم كله، لأن المهارة الشفوية صارت أمراً ثانوياً عند الامتحان، لا يخفق بسببه طالب، ومن اهتم بها من الأساتذة، لا يكاد يعتبرها أمراً يتم على أساس النجاح أو الإخفاق، بل صار جزء مهم من امتحان مقرر القراءة تحريراً، فصار الدرس الشفوي المقروء تحريرياً كما صار التعبير الشفوي أيضا كتابيا. وضاعف المشكلة، شيوع القراءة الصامتة، لا سيما في قراءة الصحف والمجلات والنشرات، بله الكتب الدراسية والحرة، وبقدر ما تفيد القراءة الصامتة في اختصار الوقت، والتركيز على الأفكار تضر الناشئين الذين لم يتمرسوا على المهارة اللغوية. وفي الأدب صار حظ القراءة قليلاً، فقد تحول النص الأدبي، إلى معارف لغوية واجتماعية وبلاغية، وحديث عن العصور والسمات، وضعف جانب التذوق، لما ضعف جانب الإنشاد، وصار الدارس لا يحفظ إلا قليلاً من نصوص الأدب، التي تتناثر ممزقة مكسرة بين شفتيه.يتم اختيارها حسب تمثيلها للظواهر الأدبية، من دون عناية بالمستوى البلاغي فيها، ولن تنهض اللغة إلا إذا عني المنهاج بهذا الجانب، وصارت وسائل القياس والتدريب، تركز على الجانب الشفوي، وبذلك ترد برامج التعليم إلى الشفوية حقها، فتعتبر إتقان المهارة الشفوية أساس النجاح، فمن لم يجدها، فلا ينبغي أن يجتاز المستوى الذي هو فيه، مهما كان حظه من المعلومات، أو المهارات الكتابية والأدبية. - ومن الأمور التي تساعد أيضاً، على تقوية جانب الشفوية، الاهتمام بالوسائل المعينة السمعية، كالمختبر اللغوي، وأشرطة الكاسيت، إذ ينبغي أن يتوجه برنامج التعليم، إلى نحو من التعليم الذاتي المبرمج، ليتم ذلك ما في المنهاج الدراسي من قصور. وللتسجيل المسموع فضل أي فضلٍ، في نصوص الأدب، والقراءة والتعبير والبلاغة، وهو يسد نقصاً هائلاً في التعليم، بل إنه خير زاد للطلاب، وهم يذاكرون، وهم يحفظون، من ما يضاعف أهمية هذه الوسائل أن كثيراً من معلمي اللغة العربية، ليسوا في المستوى النموذجي، لتكوين القدوة والأسوة، في السلوك اللغوي الذي يتأثر به الدارسون، أكثر من تأثرهم بجانب المعلومات والمحفوظات. فالتسجيلات اللغوية، تساعد المدرس غير الماهر على إنتاج اللغة السليمة، لأنها تصحح له عوار نطقه، فيكون قدوة حسنة لطلابه، وهي تساعد الطالب على أن يستمع إلى الأداء الممتاز، للنموذج اللغوي الجيد أو العالي، لأن هذا النموذج، هو أساس تكوين مهارة اللغة ولذلك تبلور هذا المبدأ التربوي في تعليم اللغة بمقولة شهيرة في المناهج الحديثة في تعليم اللغات ولا سيما الإنكليزية، هي "استمع وردد". التسجيلات تساعد الطالب، على حفظ نص فصيح، فليس أضر على الدارس، من حفظ نص مليء بالأخطاء، الصوتية والنحوية والصرفية. - وكما ركزت وسائل القياس التلقيني على المهارة الكتابية، على حساب المهارة الشفوية، ركزت على أسئلة الذاكرة اللفظية الصماء، التي قوامها تلقين القواعد والمعلومات. ومن يطلع على ورقة من غالب أسئلة الامتحانات، في المناهج التلقينية، يدرك أن الامتحان اليوم بحاجة إلى امتحان، إذ يشيع فيه عيبان: العيب الأول - ضعف الجانب الشفوي، والتركيز على مهارات الكتابة، والإقلال من قياس مهارات القراءة، والكلام المنطوق، وكما تحول امتحان القراءة إلى تحرير، صارت هي أيضا قراءة مكتوبة صامتة، وأصبحت معرضاً للمعلومات. ومن ذلك ترك قياس مهارة الحديث الشفوي، وترك قياس مهارة الكلام باللغة الفصحى، ومن المعلوم أن اللغة عادة شفوية، ولذلك سميت باللسان، وتركيز وسائل قياسها على الكتابة تفريط كبير. وإذا لم يمارس الدارس مهارة اللسان، فلن يستطيع أداء اللغة في المواقف العادية، فضلا عن المواقف الاحتفالية، فوق منبر أو أمام ميكروفون، في مقام ثقافي أو اجتماعي. العيب الثاني: أن غالب وسائل القياس، تركز الامتحان، على جانب المعلومات والقواعد، فلا تكاد تلم بالمهارات إلاّ قليلاً، لا يكاد يهتم بإقدار الدارس على المهارة، والأسئلة غالباً تتطلب أجوبة مقالية، تتسم بالذاتية، وتعتمد على التخمين، في كثير من الجوانب، وتقل فيها الدقة، ويكثر فيها الكلام والورق، لأنها تهتم بقياس كم المعلومات. لقد نسيت أنظمة الامتحانات التقليدية أن اللغة عادة، كالعادات الاجتماعية والبدنية، لا تنمو بحفظ القوانين، بل ولا تنشأ بتلقين المعلومات، ولا يمكن أن تقاس بالكتابة، وإنما هي كسياقة السيارة، إنما تقاس بالمزاولة، بأن يجلس الإنسان، فوق مقعد السيارة، ليتبيّن إن كان مجيداً أم غير مجيد، كالركض والسباحة، من مارسهما جرى وسبح، ومن لم يمارسهما أخفق وفشل، ولو قرأ ألف كتاب عن كيفية العوم والجري. وأغفلت المدرسة التلقينية، أنّ اللغة طلاقة وسرعة في الكلام، لا أن يفكر الإنسان مراراً في كل كلمة، مرة في معناها، ومرة ثانية في صياغتها، وثالثة في إعرابها، لقد أصبحت اللغة في شفتيه، شيئاً ثقيلاً يتجرعه الدارس، ولا يكاد ينطق به عذباً سهلاً. وسبيل تقوية الطلاقة، هو سرعة الكلام، وسبيل قياس السرعة، هو الامتحان الشفوي. إن نظرية الحفظ والتلقين ساعدت على اتجاه أغلب الامتحانات، إلى قياس جوانب حفظ المعلومات، ولذلك اهتم المنهج بأن لا يتجاوز الدارس مرحلة حتى يحفظ، فصار الطالب ينجح إذا أتقن حفظ القواعد، ولو لم يتقن اللغة، على مستوى الإنتاج، فاهتم الناس بما رأوه توهماً وسيلة حسنة، لإنتاج المهارة اللغوية، فأدرك الدارسون الوسائل، وغاب عنهم تحقيق الغايات. - القراءة الجهرية ومزاولة الفصحى محادثة، هي مفتاح سلامة اللغة. وقد أكد هذه الحقيقة البديهية، التى يغفلها كثير من الناس، أبو هلال العسكري في كتابه:الحث على طلب العلم، والاجتهاد في جمعه فقال: "وحكي لي عن بعض المشايخ، أنّه قال: رأيت في بعض قرى النبط، فتى فصيح اللهجة، حسن البيان، فسألته عن سبب فصاحته، مع لكنة أهل جلدته، فقال: كنت أعمد في كل يوم، إلى خمسين ورقة، من كتب الجاحظ، فأرفع بها صوتي في قراءتها، فما مرّ لي إلاّ زمان قصير، حتى صرت إلى ما ترى". وقال أبو هلال أيضاً: "وحكي لي أنّ أحد العلماء، كان يقول لأصحابه: "إذا درستم فارفعوا أصواتكم " فإنّه أثبت للحفظ، وأجنب للنوم، وكان يقول: القراءة الخفية للفهم، والرفيعة للحفظ والفهم" . ولذلك أشار أبو هلال إلى مفتاح اكتساب المهارات اللغوية، فقال: "ينبغي للدارس أن يرفع صوته في دراسه، حتى يسمع نفسه، فإنّ ما سمعته الأذن رسخ في القلب، ولهذا كان الإنسان أوعى لما يسمعه منه لما يقرؤه، وإذا كان المدروس مما يفسح طريق الفصاحة، ورفع به الدارس صوته، زادت فصاحته". كثير من المتعلّمين اليوم، نسوا فضل القراءة الجهرية، ففقدوا الطلاقة اللغوية، لأن الطلاقة اللغوية، من ثمرات القراءة الجهرية المتكررة، التي تشترك فيها ثلاثة أجهزة: جهاز النطق، وجهاز السمع، وجهاز الإبصار. للقراءة الجهرية إذن فوائد: نطق النص نطقاً لغوياً سليماً، وإدراك جمال وزنه، وإدراك جمال أسلوبه، وما فيه من تنغيم ونبر، ووقف وعطف. وهذا يؤكّد -أيضاً- أنّ رفع الصوت ضروري، لأنّ اللغة أصوات شفوية، ومن لم ينطق بها بين شفتيه، ولم يستمع إليها بأذنيه، لم يدرك منها شيئاً مذكوراً. ولكي تكون القراءة الصحيحة معبّرة مؤثّرة لا بد أن تكون حية متفاعلة مع النص، وكأنّ القارىء يقوم بالتمثيل في مسرح لغوي، متجنّباً القراءة المسرودة المملّة، مميّزاً الإنشاء من الخبر، مراعياً دلالة الكلام وإيقاعه، مقسّماً العبارة الطويلة إلى جملة إبقاعية، كي يسهل نطقها، ويستقيم بين الشفتين وزنها، لأنّ القراءة الرديئة تبدّد سحر الكلام. ومما يزيد فاعلية القراءة، التغنّي بالنصوص أيضاً، فاللغة مجموعة من الأصوات، وكلما تغنّى بها الإنسان، سهلت بين شفتيه، وأدرك جمالها، وقديماً قال حسان: تغنَّ بالشعر إمّا كنت قائله إنّ الغناء لهذا الشعر مضمار ومع حسان يمكن أن نقول: تغنّ باللغة إن أردت فهمها، أو إجادة نطقها، فإن الغناء لفصاحة اللغة وسلامتها، خير مضمار. * اكاديمي سعودي.