لي صديقة في منزلة الأخت الصغرى, بعد أن تزوجت غادرت لدولة أوروبية مع زوجها, كلما حنَّت للأرض ومن فوقها عادت للوطن مكتنزة بأشواقها.. رُزقت خلال عقد ونصف من الزمن متنقلة بين دولة وأخرى بأطفال كالنجوم في أديم سمائها لتكون لهم الشمس, ويكون أبوهم لهم القمر.. كنت كلما جاءت, أو ذهبت إليها يكون هاجسي أبناءها.. كيف نشأتهم في بيئات مختلفة..؟ أمس الأول جاءت للرياض لتكون معي في امتنان غامر بمناسبة أثيرة.. لعل الشكر مني لا يفي لكل من بادر بها وأتمها.. جلسنا معاً نرشف من منقوع ورق الجوافة الذي تحبه في الشتاء, أخذتنا الأحاديث في شجوها بشجونها, شيء من الضحك, أو التفكر, أو الدموع, فقدنا, وازددنا, أعطينا, وأخذنا, تغيّرت الحياة من حولنا ولم تتغيّر فينا مشاعرنا, ولا قيمنا وهنا توقفت معها قليلاً, كان سؤالي: كيف تربين أبناءك هناك..؟ قالت بلا تردد, أن تطلعي لأخلاق أبنائك ففي المجتمع الأوروبي لن تتعبي فهم يصدقون لا يكذبون, لا يسرقون, لا يقحمون أنفسهم فيما لا يعنيهم, يحترمون ذاتك, لا يأخذونك إلى ما يفعلون, يحترمون دينك وإجراءاتك الشخصية, باختصار لن تتعبي بينهم في تربية الأخلاق, أما ما يخصك من قيم, وعقيدة, وما يتعلّق بها من ممنوع ومشروع فإنهم لا يتدخلون في تربية ابنك حيث تريدين وكيف تشائين.. أضيفي إلى بعض ما نفتقده بيننا نحن العرب في مجتمعنا, وبين ما يؤسس لديهم فيكون حداً لا يقتحم وهو أن المدرسة قيمة لا تلاعب في دوامها ولا أدائها, وأن الشارع نظام لا يخترق, وأن الوقت سيف لا يغمد,.. كنت أصغي إليها وابنيها الصغيرين في مقتبل العقد الثاني قريبين منا يقتعدان عند طاولة كلاهما يقرأ في كتاب, ويتبادلان لعبة فكرية بصوت هادئ, ولغة سليمة, وأدب جم, حتى أخوتهما لا عبث فيها, ولا تعد بينهما لا جداً ولا مزحاً.. الابتسامة لا تفارقهما.. بكل ثقة يطرحان الفكرة, ويناقشان وجهة النظر, وحين يرغبان في شيء فأدب جم, لا يقطعان حديث غيرهما, ولا يعلو لهما صوت.. تبسمت صديقتي وهي تقول: هما ثمار المدرسة, والشارع, والنظام هناك.. أنا أتولى فقط الجانب الروحي والفكري لهما.. كانت آخر رشفة في كوب مشروب الجوافة في فمي لأختم: متى يكون المجتمع العربي مدرسة في الأخلاق لا يجهد بأمرها الوالدان فيه؟!