في محاولاتي المتعددة التي أطمع فيها بعثاً جديداً في مسأله النقد العلمي أحاول ألا آلو جهداً أن يفهم مرادي على أن السبب في هذا كله يعود في هذا إلى أن الفهم السائد لدى العلماء المعاصرين إلى أن النقد إنما هو بذل الرأي و إعطاء الملاحظة عند تحرير الكلام لنشره في كتاب أو رسالة أو مقال أو أنه العرض لكتاب أو فكرة أو رأي. ولهذا جرى الأمر على هذا كثيراً وتعمق في اللا شعور لدى العلماء و الذين يزاولون البحث العلمي ومثلهم جملة من المثقفين أن النقد هذا هو دون سواه حتى إذا فهم الأمر على غير هذا فهو يعد نشازاً قد لا يدركه، لا يدرك معناه إلا الأحاد. من أجل ذلك فقد لاحظت في الوسط العلمي و الوسط الثقافي أن هناك قسوة في الأراء المطروحة و وجهات النظر المبثوثة قسوة في الرد و النقاش و أحياناً الإصرار على وجهة النظر وهذا سائد اليوم في الهيئات العلمية ومراكز البحث العلمي وكذا مايتم نشره في المجلات المحكمة وبعض المقالات في الصحف السيارة وهذا كله ينطبق دون ريب على محاولة دراسة الوضع العلمي أو الوضع الثقافي لكنه أبداً لا ينطبق على النقد لأن النقد له معاييره و اتجاهاته كما أن له أهله و إن لم يكونوا موجودين حسب نظرة المتأمل و المكيث و المطلع الخريت و المتابع الحصيف النقد مسألة إلهامية مسألة موهبة يمتاز النقد الحر بقدر كبير من الأريحية وسعة الباطن ودراسة أي عمل ثم طرح الآراء حول ذلك ولكن هذه الآراء توحي إليك بأنه يلزمك الانصياع لها لحقيقة هذا النقد الذي أضاف جديداً إليك وبين خللاً تقبله حتى ولو لم تقبله من باب المناكفة وسوف أبين هنا أمثله حقيق بها أن يفهم بها الفرق بين النقد و وجهة النظر وبذل الملاحظة وقد يتضح هذا للمتابع واسع البال واقعي الحكم ولنأخذ هذه الأمثلة وهذا من باب تطبيق الحاصل على ما يمكن حصولة في هذا الحين وفي كل حين وأنا أجعل هذا أمثلة حية للعلماء و المثقفين: أولاً: ماحصل من مالك بن أنس الإمام المعروف و صاحب (الموطأ) حينما جزم بمذهب أهل المدينة وشدد على هذا ولم ير غيره إلا لماماً وحجته في هذا أن المدينة مأوى النبي صلى الله علية وسلم وكذا هي مأوى الصحابة ومنها خرج العلم بآثاره و أسانيده وخالف مالكاً جل العلماء خالفوه لأن العبرة هنا بصحة السند وقوته وصحة المتن ولأن الصحابة تفرقوا في البلدان. ونشر العلم في سياسة المعاملات حينما كانوا ملوكاً و أمراء وفي السياسة التعبدية حينما جلسوا للعلم و إخراج أجيال جديدة الذين هم يعرفون بالتابعين (فهذا يسمى وجهة نظر) ثانياً: مثل ما جرى بين الإمام أحمد بن محمد بن حنبل و الإمام إسماعيل بن علية أحد كبار العلماء حول خلق القرآن وكلاهما إمام جليل وقدير (فهذا يسمى ملاحظة) ثالثاً: مثل ما جرى بين البخاري و مسلم حول حديث (كفارة المجلس) فمسلم يصححه و البخاري يقول إنه حسن لذاته ثم عاد مسلم لقول البخاري بعد أن تدبر ونظر السند (فهذا يسمى بيانا أو إيضاحا) رابعاً : مثل ما جرى بين ابن حجر وكبار العلماء حول حديث (إذا بلغ الماء قلتين) كما هو في بلوغ المرام وهو كتاب معروف فابن حجر يميل إلى تصحيحه وكبار العلماء يرون أنه ضعيف وهو الصحيح (وهذا يسمى خلاف لفظي) وقس على هذا ولكي أقرب المسألة لنعرف حقيقة النقد و أنه مختلط بغيره بسبب نقص آلية الفهم كثيراً ماجرى بين حمد الجاسر و عبدالقدوس الأنصاري (حول ضم جيم جده) فهذا عند التدبر وسعة الفهم المحيط (يسمى اختلاف وجهة نظر) خامساً : ومثل ذلك ماجرى بين ناصر الدين الألباني وغيره من العلماء حول كشف وجه المرأة فالألباني يرى جواز ذلك وغيره لا يرى ذلك (فهذا يسمى اختلافا في الفهم) ولأن الألباني أجرى الأمر دون وقوف على المتقدم و المتأخر و الناسخ و المنسوخ من الآثار فإنه قال بالجواز (فهذا يسمى الاجتهاد الأحادي) سادساً : ومثل ما جرى بين طه حسين وبعض العلماء النقاد حول الشعر الجاهلي و أن كثيراً منه إن لم يكن كله منحولاً فهذا يسمى (وجهة نظر) لكنني وغيري نجد العذر لطه حسين رحمه الله أن من المختصين بدراسة الأعمال ليس إلا كما أنه نقل هذا من المستشرق وهو مبشر (مرجيلوث) دون تمحيص وقوة ملاحظة (وهذا يسمى الرأي المجرد) أو تبعية التقليد. وإذا كان النقد أعني ذات النقد ليس كذلك فيما ضربته من أمثلة حية فإن النقد إذا أردته حقيقة دون شرح أو إطالة فإنك واجده من خلال هذه الأسفار 1- (الأدلة الاستئناسية) للإمام الكتاني. 2- (تقويم الأدلة) للإمام السمعانيز 3- (النهاية) للإمام ابن الأثير. وقد أجاد من المعاصرين في مسألة النقد مصطفى بن صادق الرافعي و عماد الدين خليل و عبدالله دراز و محمود شاكر و أحمد شاكر. كما تجده في مظامين كلام الإمام البخاري في تراجم أبواب الصحيح وهذا من المتقدمين وكذا في (الزوائد) للهيثمي وعند الشيخ المبارك فوري في (تحفة الأحوذي) من المعاصرين وتجده في ثنايا طرح وليد الأعظمي في نقده المعروف لروايات (الأغاني) فكل من ذكرتهم في هذا الجزء يعتبر كلامهم حول ما أوردوه وبينوا ماله وما عليه يعتبر نقداً على حقيقته ولهذا تجد عامة العلماء و المثقفين من ذوي الباع الطويل في التحرر من القراءة القليلة و الفهم الخاص يعولون عن النقد وتقعيد المسائل يعولون على مثل هذه الكتب ولن أنسى (الفروق) للقرافي وكنت ألزم القضاة ورؤساء المحاكم بقراءة هذا الكتب مع شيء من التأني وضرورة سرعه إنهاء القضايا بحيث يقتنع المدعي و المدعى علية فالنقد كما قلت آنفاً مسألة (إلهام و موهبة) ولعل فقده اليوم أصل من أصول كثرة ظهور الأساليب الإنشائية العجولة و كثرة الاستشهادات والاستطراد حتى مع أسفي الكبير في بعض الرسائل العليا الماجستير والدكتوراه وهذا قد فهم على أنه هو النقد وهذي حقيقة لا وجه لها. وأغلب الظن أنه قد رسخ في العقل الباطن حتى لدى كثير من العلماء أن هذا هو النقد دون سواه بل لعل بعضهم في عناوين مايصدره من كتب أو مقالات يجعل كلمة (نقد) أو (النقد) هكذا بينما هذا لا يعدو أن يكون ما يكتبه في كتابه أو كتبه إنما هي آراء ووجهات نظر وهذا دون نكير ما جعل هذا النوع من الأساليب يكون نقداً حسب فهم خاص ورؤية خاصة دون فهم علمي تقعيدي جيد سليم لحقيقة النقد من وجه قائم حي دائم مستديم.