ما الذي يدفع بعض فئات المجتمع إلى التقليل من شأن الكتب الأدبية والنتاج الثقافي والفني، أمام ما يواجهه من أزمات وتغيّرات سياسية أو اقتصادية وغيرها من النواحي المختلفة في الحياة؟ ففي كل خبر تكريم للأدباء وفي الملتقيات الأدبية تطالعنا بعض المطالبات بتهميش هذا الجانب أمام الجوانب الأخرى، مفاد هذه المطالبات: (الأدباء والفنانون لا يستحقون التكريم ما دام على الثغور جنود). هذا الموضوع هو السطحي لموضوع أعمق، وهو التضاد والصراع مع الآخر المختلف، والتقليل من شأنه، من ذلك: محبو الشعر الفصيح يتعصبون له ويطالبون بتهميش الشعر الشعبي، ولا يرون أهميته، وعلى غرار ذلك تنشأ الضديات؛ (فصيح - عامي) (معاصرة - تقليد) (حديث - قديم)، وعلى ذلك يصبُّون الاهتمام في جانب ويهمشون الآخر، هذا التضاد نشأ عنه الصراع وتعاقبُ المراحل، فكل مرحلة تضاد سابقتها، مثل التيار الرومانسي الذي نشأ مما همشته الكلاسيكية، ومن ذلك الاهتمام بالأدب الشفاهي والشعبي، والخروج على اللغة الفخمة المعقدة، والاهتمام بطبقات مجتمعية دون غيرها. نلحظ هذا التوجه الفكري يستمر مع الفكر الإنساني، وهو التوجه نحو المركزية أي: فكرة طاغية تسيطر على الزمن، وما يُنتج فيه يخدم أغراضها ويحقق أهدافها. السؤال الذي أود طرحه: لماذا لا يتسع الزمن لكل الاتجاهات؟ ولماذا لا يتخلّى الفكر عن المركزية دون التضاد مع الآخر؟ كانت المعارك في التاريخ - مهما كان نوعها- تطحن الإنسان وتعجن دمه بالتراب، وكان الرسام يرسمها، والمؤرخ يصفها، والأديب يصورها في الشعر والرسائل، وفي المقابل كان أمثالهم في القصور والحدائق يصفون ويتغزلون ويغنون! ولا عجب، وليس معنى ذلك أن ما فُعل في السابق نفعله، لكنه مثال للتمازج الحضاري وإن كانت فكرة المركزية موجودة إلا أنها في مستوى السلطة السياسية، لكن هنا نفتتها على مستوى الفكر الاجتماعي. اهتمامنا في الوقت الراهن مؤسسي، فعندما يكرم ناد أدبي روائيين وشعراء، لا يعني ذلك أن وزارة الدفاع والجيش تعطلت عن مهماتها! وإذا أُقيم معرض فني في العاصمة لا يعني ذلك أن وزارة التعليم توقفت عن الاهتمام في تطوير المناهج! وإذا كتب أديب رواية في الحب لا يعني ذلك أن الروائيين توقفوا عن كتابة الهموم الاجتماعية والسياسية والتحولات الخطيرة! إنَّ أشد المواقف التاريخية التي مرت على البشرية وثَّقتها تاريخيا، وتعلمت منها دروسا في الحضارة والرقي الإنساني، وفي المقابل أنتجت أدبا وفنا يمثلها ويحكي فصولها ومواقفها، فالأمة كما تنهض بقوتها وصناعتها فإنها تتكئ على الأدب والثقافة والفن الذي يحييها روحيا، ويشعل فيها مصابيح الجمال الفلسفي. فالاهتمام بالنتاج الأدبي والفني لا يعني أن النتاج العلمي والاقتصادي والعسكري معطل، فلكل اتجاه طريق، كلها تُنتج على مستوى الإنسان والمجتمع، إلا الواقفون بين الطرق المعارضون والمعطلون الذين يثيرون الرأي العام بالاعتراض، لأنهم ينظرون بعين ضيقة جداً، بل عمياء في كثير من المواطن، فلا حراكهم حراك مثمر، ولا عملهم عمل ناجع، ليس إلا كلمات تُبث هنا وهناك تُؤذي الإنسان المنتج «غمامكم راعد ولا مطر[1]». ... ... ... [1] ابن حزم الأندلسي ** **