سأبدأ من النهاية حين قال د. عبدالله الغذامي «قلت ما أقول وصدحت بما في القلب. فهل لصديقنا أن يقول نعم نعم لكلينا؟» وذلك تعقيباً على تغريدتي التي جاء نصها» ... يركن صاحبكم للاستماع والاستمتاع بحديث رفيق دربه المثقف (المختفي) الدكتور عبدالمحسن العقيلي» متى يجود قلمه؟ وهنا أعود للبداية في مطلع عام 1413ه، حين التقيته في قاعات «علم اللغة التطبيقي» في مرحلة الماجستير، في محاضرات لا تنسى مع أحد أعلام لغتنا العربية الأستاذ الدكتور عبده الراجحي - رحمه الله-، وفي محاضرات د. علي شعبان وأستاذنا القدير د. عمر سعيد. كنت أحمل قلمي ودفتري لألتقط الحروف والأفكار، وكان صاحبي يسبح في عقله مع تلك المحاضرات. كان يسمع ويستمع ويدرك ويستدرك، ثم أصبح يلقي ملحوظاته ومداخلاته بأسلوب لغوي مبين، ثم اقتربت منه واقترب مني لتتطور العلاقة إلى لقاءات خارجية واجتماعات ثقافية مع زملاء آخرين. في تلك الأثناء، كان يحدثني كثيراً عن قضايا فكرية وثقافية بما يدور خارج قاعة المحاضرات. كنت مندهشاً، وفي الوقت نفسه منجذباً لطرحه وأطروحاته، وأدركت وقتها أن وراء هذه المعرفة والمعلومات قراءة، بل قراءات وكتاباً، بل كتب، وإن نسيت هنا، فلا أنسى مشاغباته اللغوية الثرية مع أستاذنا القدير في علم اللغة د. عمر سعيد نتذكرها هذه الأيام إذا التقينا نحن الثلاثة. في أثناء تلك الأيام الخوالي تطورت العلاقة من زمالة القاعة إلى صداقه حميمة؛ إذ أصبحت المكالمات الهاتفية تأخذ منا وقتاً لا بأس به مرةً في الحديث عن الكتاب الذي يوصي بقراءته، وأخرى عن ذلك المقال الرائع الذي نتحاور حوله. أنهينا الماجستير، وهنا ابتدأ مشوار آخر بلا تخطيط أو ترتيب؛ إذ التقينا سوياً في البعثة لمرحلة الدكتوراه في جامعة أوهايو في الولاياتالمتحدةالأمريكية، والأجمل والأغرب أن يكون مشرفنا واحداً هو الدكتور (وليم سميث) أستاذ القراءة وفنون اللغة في الجامعة. هناك، حيث الغربة والمحاضرات والمكتبة لا شغل لنا إلا القراءة والكتابة. لم أنقطع أنا، ولم يترك هو متابعة قراءة الكتب العربية ومتابعة المجلات والمقالات الصحفية، فاشتركت في المجلة العربية وسعيت إلى إدخالها في مكتبة جامعة أوهايو، فأصبحنا أكثر المتحدثين في ذلك الزمن عن ذلك الكاتب والكتاب. لا أستطيع أن أقول إني اكتشفت ثقافة الرجل واتساعها لكنني اندهشت فعلاً من حصيلته المعرفية فأدركت قبلها وحينها أنه في شبابه (المرحلة الثانوية والجامعية) لا هم له إلا القراءة والمتابعة، فأصبحت بعد ذلك إلى هذا اليوم أسيراً وأصبح هو آسري. عدنا من البعثة قبل ما يقارب عقدين من الزمن، وكنت بدأت قبل ذلك في الكتابة والتعليق في العزيزة (الجزيرة) فدعوته لنثر حروفه وأفكاره لكنه يحجم عن ذلك تواضعاً، وفي الوقت نفسه إذا كان هناك مداخلات شفهية في مؤتمر أو ندوة أو لقاء فإنه يشد أنظار الحاضرين. ومما أذكره أننا حضرنا ذات مساء في ثلوثية المشوح وكان الضيف د. علي الموسى فالتقينا الثلاثة بعد اللقاء نتجاذب أطراف الحديث مع تعليقات متنوعة، فطرحت فكرة أن يكتب د. العقيلي في الوطن، فرحب أبو مازن كثيراً وكان مسروراً، لكن صاحبي كالعادة يلوذ بتواضعه. مضت الأيام وفي خاطري أن مثله إذا لم يكتب فإنها خسارة فأصبحنا نذهب إلى معارض الكتب هنا وهناك ونقف في بيروت في دهاليز دار الساقي فأتبع خطواته وأرقب أنامله حين تجثو على عنوان معين فألتقطه دون تردد. مع مرور الأيام، أزداد حسرة على تواضعه ويزداد هو قراءة وثقافة واطلاعاً ثم تأتي لقاءات مع مايسترو الكلمة د. إبراهيم التركي فيعرض عليه قائلاً: «الجزيرة الثقافية بين يديك في أي وقت ولا بد أن تكتب». وها أنا اليوم أكتب المقال عنه بعد أن كتبت وناديته لتملأ حروفه جدران الثقافة، لأعود إلى الشعر والشعور والمشاعر، حين وقف الزميل د. فيصل القرشي يودعنا بأبياته الشعرية في حفل الوداع بعد أنهينا مع مجموعة من الزملاء دراستنا في جامعة أوهايو، إذ قال: وعبدالمحسن ابن للعقيلي له عقل يزينه الذكاء وطرح مستفيض في أناة تؤيده الأدلة باقتضاء وفهد ليس ينسى من أديب له دلو إذا عز الدلاء لكم أحيا ليال سامرات وشنف سامعيه بالأداء. سيبقى صاحبي مستتراً بالتواضع، وسأبقى أسير حرفه! العقيلي عقل.