لم يختلف التربويون على شيءٍ اختلافهم على ماهية المدرسة؛ فهي اللّبِنة الأولى في العملية التربوية التعليمية، وهي محجة كل دارسٍ، حيث يقضي فيها وقتا طويلا، فهو يدخلها منذ أنْ يترعرع غلاما حدثا في السادسة من عمره، حتى يقارب الثمانية عشر عاما والمدرسة أكثر مكانٍ يبقى فيه المتعلم بعد بيته بالطبع. ولهذا تظل المدرسة هي حجر الزاوية في العملية التعليمية ومنتهى كل عملٍ تربويٍّ خلاّق. وهي أخطر مكان يمكن أنْ يتشكّل فيه الفرد ويتم تنشئته تنشئة اجتماعية وعلمية وثقافية. ولذا أولت الأمم المدرسة الدرجة العليا من الاهتمام والرعاية، فمنها يتخرّج النشء، وهي المسؤولة مسؤولية كاملة عن النهوض بالمجتمع أو انحطاطه، وإذا ما أردتْ أنْ تعرف حال أمّة من الأمم؛ ما عليكَ إلاّ أنْ تفتّش عن مدارسها، فإنْ وجدتَ مدارسها مفعمة بالعمل والنشاط، فإنَّ حال الأمة كذلك. نشأتِ المدرسة أول ما نشأت بمعناها المتعارف عليه اليوم في المدن العربية الإسلامية كبغداد ودمشق وقرطبة وغيرها من المدن العربية، ومنها انتقلت إلى أوروبا بطبيعة الحال، وليس هذا بمجال قالتنا هذه؛ ولكنّ النظرة إلى المدرسةِ بوصفها فاعلٌ مهمٌ في نهضة الأمم هو مناط حديثنا. فلقد بلغ من أهمية المدراس العربية قديما أنّ الخلفاء كانوا هم من يختار لها من المعلمين الأكفاء، وكان المعلمون أيضا علماء في الأرض، يتولون التدريس في هذه المدراس، ويمارسون خارجها القضاء وإمامة المساجد وغيرها، وكانوا أعلاما يهتدي بهم الناس، ويوقرونهم. ولذا كانت المدرسة منارة علم، ومحجة لكل طالب علم، يُرسل إليها الأبناء من كل مكان. لكنّ المدرسة الحديثة التي نراها اليوم على النمط الغربي الذي جعل منها جامعة مصغرّة ، جعلت المدرسة تفقد هيبتها وبريقها وتأثيرها في المجتمع ، بل وجعلتْ المتعلم ينظر إلى المعلم وكأنه يمارس مهنة عادية لا تهمه كثيرا، فالعلاقة بين المعلم والمتعلم في مدارس اليوم باتت رأسمالية بحتة، تحكمها براغماتية ما كانت لتوجد في المدرسة مع الأسف ، لولا أدلجتها بالمنهج الأوروبي الحديث الذي نراه اليوم في مدارسنا ونحن نقلّد الغربي في كل شاردة وواردة .فالمدرسة العربية الإسلامية حافظت على خصوصيتها لقرونٍ عدّة ، وهي تنشيءُ علاقة روحانية متميزة بين المتعلم والمعلم، والمتعلم ينظّر إلى مدرسته بتفاخر، ويظلُ طوال عمره يذكر أنّه من خريجي هذه المدرسة أو تلك . وكانت المدرسة أيضا واحة علم ولا يقتصر دورها على التعليم فقط، بل تعدى ذلك إلى التكافل الاجتماعي والثقافي واحتضان المتعلم بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وكان هناك مدراس بنظام اليوم الكامل بحيث تجعل المتعلم شديد التعلّق بمدرسته. وبمعلميه بطبيعة الحال. ولذا، ظلت المدرسة هي الحصن الحصين في المحافظة على أخلاق الأمة وتربية نشئها، وإخراج الأجيال المتعلّمة التي تساعد في تقدّم الأمة ونهضتها. ولما جاءت المدرسة الحديثة (الغربية) بطبيعة الحال، باتتْ مكانا يجتمع فيه المعلم والمتعلم لساعات محددة، ثم يغادرانها لتبقى مقفلة حتى صباح اليوم التالي، وانقطعت تلك العلاقة الوجدانية التي كانت تربط المتعلم بمدرسته، وتربطه أيضا بمعلميه. وبات معنى المدرسة في ذهن (التربويين) هو المكان الذي يلتقي فيه المعلم بطلابه، ولذا لم تتورع وزارة التعليم هنا أو في أماكن مختلفة من دول العالم النامية على استئجار أماكن لا تمت لمعنى المدرسة بصلة. فلا أرجاء واسعة، ولا فصول دراسية متناسقة، وقد تجد مطبخا وقد استحال فصلا، مما يعني أن الفكرة التي رُسمتْ عن المدرسة في ذهن المتعلم قد تحطّمت، ولم تعدْ المدرسة من الأشياء المحببة لنفسه، فبات يكرهها، وقد يغادرها إلى الشارع المنفتح، وهو مدرسة الحياة كما يقال. وتظل مدرسة الشارع خاضعة للمحاولة والخطأ والتجريب. وهنا نجد الضد للمدرسة الحقيقية بفعل وزارة أو جهة تشرف على المدرسة ولكنها لم توجدها بطبيعة الحال. ولعل في تحطّم مفردة المدرسة في ذهنية المتعلم، ما يفسر كل الظواهر السلبية التي نراها من بعض المتعلمين تجاه المدرسة وكل ما يمتُ إليها بصلة ابتداء من المعلم والكتاب المدرسة وفناء المدرسة وجدرانها التي لا تسلم من عبث المتعلم الذي أصبح يرى في المدرسة أغلالا، لا مكانا محببا لنفسه. وحان الوقت ليشارك التربويون وعلماء النفس في الجلوس مع المتعلم الذي هو من سيقبع في الفصل الدراسي، لمعرفة حاجاته الأساسية وكيف يرغب أنْ تكون عليه مدرسته، لا أنْ نبقيهم داخل هذه الغرف المغلقة طوال ثمان ساعات أو تزيد ونحن نأنف من المكوث في المكان الواحد لو زاد مكوثنا فيه عن ساعة واحدة، فما بالك بالطفل الذي جُبلَ على الحركة والنشاط. وحان الوقت أيضا أنْ نجعل من المدرسة جنّة وارفة الظلال يشتاق إليها الطالب، لا أنْ يراها سجنا يتمنى الخلاص منه، وأنْ نُفكّر أيضا في الانضباط ال قاسي على الطفل الذي جعل من المدرسة مقرا عسكريا لا تربويا، وكأن هذه الطفل هو جندي يتدرّب على المشاق والمصاعب في سلك الجندية لا المدرسة التربوية. فلم نعدْ نفكّر في ماهية هذه المدرسة، بقدر ما أصبح تفكيرنا منصبا على إيجادها بنفس الطريقة التقليدية، فلا نستطيع أنْ نفرَق بين المدرسة وبين عمارة سكنية مثلا. وهذا كُله يصبُ في غير صالح العملية التربوية. لقد تنبّهت فلندا مثلا وقد كانت تقبع في مؤخرة الدول تعليميا إلى حاجات الطالب وإلى أهمية المدرسة، فعمدتْ إلى تغيير هذه المدرسة، وإلى تغيير المنظومة التعليمية، وجاءت النتائج مثمرة بناءة في تحصيل تلاميذها وتفوقهم. ومن المؤسف أنّ القائمين على أمر المدرسة في البلاد النامية لا علاقة لهم بالتربية في أحسن الأحوال، وتكون أهدافهم منصبّة على أمور جانبية ليست المدرسة أولها، ولذا تكون المحصلة هي سلبية مؤذية في غير صالح العملية التربوية. وكان الأجدر بأي وزارة تعليم أنْ تصبَّ جُلَّ اهتمامها على المدرسة أولى فهي حجر الزاوية الأول في العملية التعليمية. وإذا فشلت في إيجاد بيئة مدرسية حقيقية؛ فعليها أنْ تسلّم بفشلها وأنْ تغادر المشهد التعليمي برمته. ليت شعري من يعيد إلينا مدرستنا العربية الإسلامية القديمة بمعلمها الكفء وببيئتها التعليمية الحقيقية. وعندها سنضمن لكم طلابا نابغين، ومجتمعا سليما رائدا منتجا.