صلة عميقة بين الحمام والناس.. بين الحمام والسلام.. بين الحمام والسلام مع الناس وبالناس ومن أجل الناس، فشواهد التاريخ متعددة الدلائل على تلك الصلة، ولا ينكرها إنسان.. وربما لا تنكرها حمامة أيضاً! * حمامة نوح عليه السلام، في السفينة، حين عادت له بغصن زيتون. * حمامة غار ثور ببيضتيها على فم الغار حتى حسب طالبو دمَ نبيّ الإسلام عليه السلام في هجرته وصاحبه الصدّيق أنهم أخطأوا الطريق إليهما (وإن اختلف التحسين والتضعيف لما رواه ابن كثير حولها في البداية والنهاية). * حمامة أبي فراس الحمْداني حين ناحت بقرب نافذة سجنه الروميّ فألهمته إبداع قصيدة خلّدتها معه في عيون الشعر العربي. * ومحمود درويش.. (يطيرُ الحمامُ يحطُّ الحمامُ)... كل هذا تأملته حين عدتُ، في زيارة خاطفة، إلى منزلي في الرياض بعد غياب ستة شهور تركته مهجوراً.. في المنزل أربع نوافذ كلها تطل على الشارع العام، غير أن نافذة واحدة من الأربع - وهي نافذة غرفة مكتبي - اعتدتُ منذ سنوات أن أفتحها وأقف عندها أطل على الناس والسيارات والأشياء تتحرك في مسارين متعاكسين، اعتدت أثناء تواجدي في المنزل ترك تلك النافذة مفتوحة معظم ساعات الليل والنهار، فقط تلك النافذة دون النوافذ الثلاث الأخرى.. غير أنني حين عدتُ وفتحتها من بعد الغياب الطويل قليلاً، طارتْ حمامةٌ فزعاً تاركة في قلب عشٍّ بنته على حافة النافذة بيضتين أسالت من عينيَّ دمعتين. قلتُ، ويا ليتَ من جدوى لما أقول: أنا لم أعد شرّاً، فعودي يا حمامةَ بيتيَ المهجورْ أقسمتُ أن أمضي، فمهلاً سوف أغلقُ كل نافذةٍ وأسحبُها الستارةَ ثم أطفئُ كلَّ نورْ البيتُ بيتكِ، لم يعد لي فيه من شيءٍ سوى الأوراقِ كدّسها الكلامُ بلا انتظامٍ لا تبيضُ ولا تطيرُ ولا تحطُّ ولا تساوي فرخَ عصفورْ! أنا راحلٌ عن عشّك المحميِّ يا أمَّ الجنينين ارجعي من أجل كل سلامْ كوني على ثقةٍ بوعديَ، واطمئني مثلما الدنيا اطمأنّتْ للنجومِ مع الظلامْ فلتحسبي للعائد الوهميّ حسبانَ العبورْ ولْترجعي للبيت من كل النوافذِ لا تخافي – لا عليكِ - عليَّ من أبواب من رحلوا إلى الأرض.. القبورْ فأنا قد اعتدتُ المشاويرَ العميقةَ في ارتحالٍ للرمال وللصخورْ وأنا قد اعتدتُ انتهائيَ من زياراتٍ إلى أرضٍ سريعاً؛ مثلما اعتدتُ الحياةَ على الهواءِ كما الطيورْ.!