تشيّخُوا قبل أن يَشِيخوا ! (لبعض الأندلسيين) تفشّت في الآونة الأخيرة آفةٌ ترشح دناءةً وتقطر سخفًا؛ تشيّخ فيها الغِرّ، وتعالم الصحفيّ، وبسببها أدخلَ أناسٌ أنفسهم في أهل الاجتهاد غلَطًا أو مغالطة؛ كما قال الشاطبي - رحمه الله-؛ تلك هي حالة «التعالم» في مجتمعاتنا العربية المعاصرة، التي تخلّق في رحمها «جِرابُ الكذب»، واتسعت على أثرها مساحة «المتعالِمين»؛ الذين استغلوا مواقع التواصل الاجتماعي لنشر غثائهم، ودعواهم العريضة بالعلم؛ فكلُّ دعيٍّ يمكنه أن يظهر على هذه المواقع ليقول أيَّ كلام، ويزعمَ أنه «عالم» أو «شيخ»، أو «مفكر»، أو «خبير»، أو « أديب»، أو «شاعر»، أو «مستشار».. إلخ، ويمكنه أيضًا أن يُنشئ حسابًا أو قناةً خاصة، مانحًا شخصه الكريم ما يشتهي من الألقاب، ليمضي نحو «النصْب» على هذه المنصّات، التي لا يعنيها ذلك ما دامت تتربّح من ورائه. والواقع أن هؤلاء يعبّرون عن شخصياتهم الضائعة، في واقع عالميّ لم يعد يَعترف بنا؛ حين تحولنا إلى شعوب يصنعها الإعلام، ويُلقي بها في مهبّ الوهم، وحب الظهور، والضحك على الذقون، والنصب على المجتمع..! إن أغرب ما يمكن أن نسمعه أن يعلن المرء عن نفسه بأنه «عالِم»، دون أن يقدم دليلًا على ذلك، سوى ما يعتمد عليه من شهرة صنعتها منابر (التويتر) و(الفيسبوك)، و(الأنستغرام) وأخواتها، ربما لأننا في عالمنا العربي لا نمتلك الشجاعة لفحص صفة «العِلمية»، وربما لأننا شعوبٌ لم تعد تحتفي بالعلم بقدر احتفائها بالخضوع للوهم وفقدان التمييز! ولذلك فلم يعدْ صادمًا أن نرى ونسمع أبطال (الميديا)، وهم ينفثون سموم كذبهم بكل سبيل، و»يتنفّخون» بالعلم والخشية في كل مناسبة، ويحتفون بما يقدمونه من تسطيحٍ ولجلجةٍ باسم الدين والدعوة الإسلامية حينًا، وباسم الثقافة والفكر حينًا آخر، وباسم ما شاؤوا وشئتم في أحايين كثيرة، وبذلك استطاع مشاهير «الغَفْلة» ترويجَ تجارتهم، واستغفال السذّج، تحت «عَجَاجٍ من التعالم» (كما يعبّر الشيخ محمود شاكر) ؛ وكانت هذه التجارة هي المؤهِّلَ العلميَّ الوحيد لأكثرهم، في مجتمعات بدأت تستسلم لأبشع أنواع الرأسمالية التي تشيّئ الإنسان وملَكاته وعقله وعواطفه ومعتقداته، ليتحول إلى دمية يوجهها الإعلام المسلَّع، في واقع يتجه بنا نحو «تسليع» كل شيء، بما في ذلك الدين والضمير والثقافة والفكر . نعم، ساعد الإعلامُ الجديد «المتعالِمين» على الظهور، وتحويل عقول متابعيهم إلى مجرد مكسب مادي، وهو أسلوب رخيص يخضع لسطوة ( البزنس)؛ من أجل الحصول على رقم مليوني لحساباتهم أو قنواتهم الخاصة، بحيث تصبح متاجرَ إلكترونيةً صالحة لاحتضان الإعلانات مدفوعة الأجر ! وهذا يعني- مع الأسف- أن الواقع قابل للرضوخ لهؤلاء الأدعياء؛ الذين يسعون إلى استغلال ثورة الاتصالات، وتطويعِ الدين والتسطيح الفكري لخدمة مصالحهم الشخصية . المخيف أيضًا أن هذه النماذج السيئة ما تزال تنتشر بسرعة كما تنتشر الأورام في الجسد ؛ في خضم هذا العبث الذي نراه يملأ الفضاء اليوم، والتغييب المتعمد للجماهير بمعسول الكلام وبالدعاية الرخيصة بجميع ألوانها ؛ إنه «التعالم» يمتطيه مَن يمتطيه بغرض المتاجرة، وبدعوى الاستجابة للغة العصر، ولكل واحد من «المتعالِمين» أسلوبه، ولكلٍّ طقوسه وشعائره . وأخيراً: ماذا بعد تسطيح الإنسان وتسليعه؟ وهل من سلطة تردع «الخنفشاريين»، في واقع يجنح نحو احتضان الوهم، ويمنح كلَّ مدّعٍ شهادة «العالِمية» وفرصة «التعالم»، ليتاجر بالدين والفكر والعقل العربي ؟! ** ** - عبدالله بن سُنكر