أذكر جيداً من ضمن ما لا أنساه أبداً مقولتك الشهيرة لي: « كوني اسمك».., وأول ما دربتِني عليه تطبيقاً لها في طفولتي المبكرة, حين كنت ألهو بدميتي التي حاكتها لي «سِتِّي», أمُّكِ التي صنعتها بفرح, التي زخرفت أطراف ثوبها, وجعلت عينيها من خيوط الحرير الخضراء, التي ألمحت لي بأنها حين تنظر بهما فكل ما تراه أخضر كالخيوط التي ترسمهما, حتى الحجر يا ستي؟!.. سألتها فأجابت: أليس الحجر تغسله الأمطار, وينبت جواره العشب الأخضر؟! دميتي منذها جعلت كل شيء في عينيَّ من ثمَّ أخضرَ!!... حتى كبرتُ, أدركت فيما بعد فوارق الألوان!! تلك الدمية المحببة إليّ, التي كانت أقرب لي من نفسي, التي طلبتِ يا نوّارة مني أن أهبها لأول طفلة حافية, حزينة, يتيمة, شاحبة التقيناها بين أشجار, وبيوت مزارع الهدا الطينية, في صيف كنتِ فيه معي تمررينني معك لاستنشاق الهواء الصباحي الباكر فالتقيناها, قدمتها لها استجابة لطلبك, وأنا بالكاد أقوى على فراقها, حينها انحنيتِ إلى طولي, وهمستِ في أذني: سأصنع لك مثيلتها, لكن صغيرتي هذه الطفلة ليس هناك من يصنع لها دمية ذات عينين حريريتين خضراء..!! هاجستني كلماتك بعدها لياليَ كثيرة, وأياماً عديدة, ولم تفارقني أبداً, حُفِرَت في وجداني, وافتَرشَت..!! يا نوّارة, من يومنا ذلك, نبتت في داخلي فسائل كلماتك وأينعت, نزلت في مكامنها الخبيئة في جوفي, تكوِّنني , تشكِّلني, تبعثني أحرص أن أكون اسمي, فانخرطت في مدرسةِ أبعادِها التي لا حصر لها, أجاهد ضعفي, لتنتصري أنتِ خضراءَ فارعة كما كان طولكِ في كل ما أرى, وأستنشق, وإلى ما يبقى من بعد....! اليوم يا نوّارة, بعد هذا الزمن الطويل, الممتلئ بك, بعينين تمتدان بالأخضر, ونظرٍ ريَّان ممطر, وشعور ساكن رَضيٍّ, وقبولٍ مطمئن لكل ما بين الجفون, وفي السمع, والذائقة, وعند مفرق النبض, وحداء الشهيق, والزفير, عرفتُ الحياة بألوانها,!! وبالكاد التقطت مفارقاتها, وتناقضاتها, لأنها كانت صافية كعذب النمير, وصحو السماء, وبسطة البحر, ومدى النظر, وسكينة الطمأنينة, ووسادة الحلم معك!! وحسبتها كذلك حيث غرستِها وأينعت بكِ فيَّ.. أجل، بصعوبة بالغة يا نوّارة صدقت أسودها, وأحمرها, وطحلبها, وغبرتها, وحفرها, وشقوقها, وكمائنها, وثقوبها, وخوفها, وشوكها , وجمرها, وخيباتها, وفقدها.. وبمحض حزن أيقنتُ باختلافِكِ, وبأنّ زرعكِ ليس له إلا بقعة منفردة في مدى مخيلة تحتويه لتحرسه..!! اليوم يا نوّارة أنتِ هناك لا تجيبينني, وأنا هنا أسألكِ: هل كنتِ على حق حين فعلتِ بي ذلك؟!.. أو أنَّ السؤال هذا قد انبعث في متاه فقدكِ متأخراً, وفي فراغ بُعدكِ ممتلئاً؟!!.. وفي الفراغ من صوتكِ يهمس لي بنعم, أو بلا؟! لأبدأ الطريق الذي دللتِني إليه حين قلتِ لي: « ستكبرين, وذات يوم يا بنيّتي قفي هناك إلى الشمس, مع غروبها, وشروقها ابعثي للسماء بالسؤال حيث سيباغتكِ, تلمسي صدركِ, ولن تضلي الإجابة أبداً يا صغيرتي «..! كبرت صغيرتك, وشاخت.. وفعلتُ..!! فعلتُ اليوم, وأمس, والليلة, والصبح, وعند الغروب, والضحى, باغتني السؤال, نعم, فعلَ وباغتني سؤالكِ, وقد كان معشِّشا فيَّ, يتنامى يقظاً لا ينام.. تلبَّستني أبجديتُه جملة, وتفصيلاً.. لكن, ليس ثمة من يحيك لي دمية, ولا ثمة دمية بعينين من خيوط حريرية خضراء.. لا بوصلة, ولا مجدافاً..!! ويدي على صدري, الشمس تنزل, تنزل كأنها ستغرق في البحر, أو تلتهمها الأرض البعيدة أطرافها.. وبين يدي الجواب, وأنتِ تنهضين داخلي وبين عيني!!.. وأنا أقول لكِ: لم يَعُد الزمن جديراً بالإجابة، ولا بدميتكِ يا نوَّارة..!!