عن الدار العربية للعلوم (ناشرون)، وفي العام الماضي 1437/ 2016، صدرت للروائي الناقد د. حسين رحيم روايته (العطفة) في ست وثلاثين ومئة صفحة من القطع المتوسط. تصف الرواية حياة البادية في مكان وزمان غير محددَيْن، فتحدثنا عن قبيلة اختار لها المؤلف اسم (المجاهدة)، وينقل لنا - عن طريق راوٍ عليم - أحداث سكانها اليومية وحياتهم المعيشية بتفصيلات تجعل من غير الملم بها خبيرًا، بدءًا من اختيار المكان المناسب لإقامة تجمعهم حول (خَبرة) أو قاع تتجمع فيه السيول لضمان وفرة الماء والكلأ، ومرورًا بطريقة توزيع بيوت الشعر وبيت الضيافة (الربعة)، ومواعيد القهوة والتقاء شيخ القبيلة بأفراد قبيلته وزعمائها والضيوف والزوار والغرباء، وما يلزم ذلك من وسائل الإكرام. ويعدد لنا زوجات الشيخ وأولاده ومهامهم، ويقف عند اهتمام الشيخ بابنته (شماء) على غير عادة العرب بالاهتمام بالنساء لما بدر منها من أمارات الشجاعة والذكاء والطموح. ويرسم لنا تحركات كل من له صلة بالقبيلة من رعاة وبائعين جائلين (دواجين) وصناع مقيمين بالمضارب وربابين زائرين في مواسم معينة، ولا ينسى حتى الحنشل (الحوافين). ويصور لنا أفراحهم وألعابهم، ولاسيما (الدحة)، تلك الرقصة الشعبية المحببة للجميع، وما لها من طقوس ومن دلالات. ويصف لنا معاركهم مع معاديهم من جيرانهم من القبائل الأخرى، وما يلزم المعركة من استعداد ورسم خطط وتوزيع مهام. وينقل لنا علاقة القبيلة بالقبائل المجاورة، وكيف تنشب الخلافات وتشتعل الحروب، فقد تعرض (حمود) ابن الشيخ (هذال) - زعيم المجاهدة - لطلق ناري متعمد من مجهول أثناء سباق للخيول جرى صبيحة يوم عيد، وسُجِّلت الحادثة ضد مجهول إلى أن تبيَّن بعد سنوات أن القاتل ما هو إلا (جربوع بن غثيث) ابن شيخ قبيلة (الشواهر) زوج (ظبية) ابنة أخي الشيخ هذال. فقد حدثت ملاحاة بين الزوجين؛ فسخرت ظبية من زوجها بأنه ليس كفؤًا، فرد عليها بما كشف عن جريمته؛ إذ أعلن مفاخرًا أنه هو من قتل ابن عمها، فما كان منها إلا أن استلت خنجرًا، طعنته به، وولت هاربة إلى مضارب أهلها. وبدلاً من البحث عن تسوية أو حل تُعِدُّ قبيلة المجاهدة العدة لغزو الشواهر، ولكن مع إعلامهم قبل الحرب بثلاثة أيام، وتحديد ساعة الصفر ومكانها. قدم الكاتب وصفًا كاملاً للمعركة بدءًا من الاستعداد لها، ووضع الخطة الحربية، وتوزيع المهام بين القادة، بما في ذلك مهمة (العُطفة) التي أدت دورها شما ابنة هذال، وتولى (ذيب) ابن أخيها مهمة حمايتها. والعطفة - كما شرحها المؤلف في حاشية الصفحة - هي الفتاة العذراء المميزة في القبيلة من حيث الذكاء وطلاقة اللسان، وتكون ابنة شيخ القبيلة عادة. ويستخدم العرب العطفة أثناء خوضهم الحروب مع خصومهم في البادية حيث يُركبون الفتاة جملاً عليه هودج مكشوف؛ ليراها أفراد القبيلة جميعًا، وأثناء القتال يجتمع الفرسان حولها لحمايتها ومنع أسرها، وتطلق العطفة الأهازيج الحماسية التي تزيد من شدة القتال؛ كي يدافع أبناء قبيلتها باستبسال عن شرفهم، ويمنعوا وقوع عطفتهم في الأسر. عادت قبيلة المجاهدة منصورة، غير أن الفرح قصير المدى؛ فلم تكد أيام البهجة بالانتصار تنقضي حتى أحس الشيخ هذال بدنو أجله، فدعا أخاه وأبناءه إلى اجتماع عائلي، عيّن فيه ابنيه (صقرا) و(مجولا) ليتوليا المشيخة من بعده واحدًا تلو الآخر، وأوصى الجميع بالالتفاف حول خليفته، وعدم شق عصا الطاعة، وذلك بحضور أخيه - عم أولاده - ليكون شاهدًا ومعينًا ومؤيدًا ومراقبًا وراعيًا للحدث. يتوقع القارئ أن الخلاف سيدب بين الإخوة، أو ينقلب العم على أبناء أخيه فينتزع المشيخة منهم، لكن شيئًا من هذا لم يحدث. والذي حدث هو أن هجم على القبيلة ليلاً من لم يُحسب حسابه ولم يُؤبه له من دخلاء على المضارب، كونوا لأنفسهم قبيلة أسموها (المفازة)، سيطرت على القبائل وقوي نفوذها. هؤلاء وافدون على القبائل العربية، سود البشرة، لا يتزيون بالزي العربي، وقد أعملوا جواسيسهم من الربابين والصناع، واستفادوا من حب أحد أبناء الشيخ هذال للزعامة فعينوه شيخًا بدلاً من أخيه شريطة أن يسهل لزعيم القبيلة المحتلة أمر زواجه من شقيقته شماء؛ عطفة قبيلة المجاهدة! انتهت الرواية نهاية غير طبيعية وغير متوقعة، فبدلاً من قتال هؤلاء الغزاة والدفاع عن أرضهم نجد أن أشجع فرسان القبيلة (ذيب) وعمه (مجول) يهربان إلى كهف خارج المدينة. ونجد بطلة الرواية (شما) ذات العطفة لا تقاوم ولا تحاول الغدر بمن اغتصبها واغتصب المشيخة من أخيها. لا بد أن يكون وراء الحكاية مغزى، لم يشأ الروائي أن يعلن عنه صراحة، وجعل القارئ يستنتجه من خلال نهاية الرواية المفتوحة على أوسع نطاق؛ إذ لا يتصور القارئ أن يكون هدف المؤلف من الرواية وصف حالة البدو ومعيشتهم وقتالهم، فتلك أمور مبثوثة في كتب التاريخ والحكايات. والدليل على ذلك أن المؤلف سلط الأضواء على أسباب خسارة المجاهدة لمشيختهم، ولخصها في عدم الحيطة والحذر من القبائل المجاورة المعادية، ومن الجواسيس والعملاء، ومن الأقارب المتخاذلين الطامعين في مراكز ليسوا أكفاء لها. ومن الإشارات التي تكشف لنا مغزى الرواية البعيد أن القبيلة التي اغتصبت المشيخة من المجاهدة عللت ثورتها بأنها انتصار للدين؛ إذ إن المجاهدة - في رأيهم - لا يقيمون حدود الله ولا شرعه. ومن الإشارات الأخرى أنهم أطلقوا النار على عازف الربابة بحجة أنه يتغنى بأبيات تحض على الإرهاب! حرص المؤلف على توفير كل عناصر النجاح لروايته، فاستخدم المفردات والمصطلحات البدوية كما ينطقها أصحابها، وبذل جهدًا لإيضاح كل مصطلح وشرح ما يعنيه وما يتبعه من عادات، مع محاولته إيجاد صلة للكلمة العامية بالفصيحة. واعتنى كثيرًا بانتقاء أسماء أبطال روايته. فحين يكون (صقر) و(ذيب) من فرسان قبيلة المجاهدة يقابلهما (غثيث) و(جربوع) من الشواهر، وحين تكون (شماء) هي عُطفة المجاهدة تكون (لعوب) هي عطفة الشواهر. أما زعيم قبيلة المفازة فيمنحه اسم (غريب)؛ ليكون أكثر دلالة على هذه القبيلة الغريبة عن نسيج المجتمع البدوي! لقد كسا المؤلف روايته عباءة بدوية، وترك لنا مهمة اكتشاف ما بداخل العباءة!