بسرعة وحدّة تجيب "رند" بنبرة صارمة عندما أطلب منها أن تحترم أختها الكبيرة "لمى": إنها لا ترحمني (تقول رند) حتى أحترمها "يا بابا". ويبدأ الجدال أو الشجار أو سموه ما تشاؤون مما يحدث بين الأطفال الأشقاء، وأعرف أن كل واحدة منهما تستدعي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لصالح قضيتها حيث قال: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا" وورد في رواية "ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا". وروي هذا الحديث من عدة وجوه منها رواية الترمذي؛ عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقّر كبيرنا"، صحّحه من صحّحه وضعّفه من ضعّفه ولكنه حسن المعنى بجمعه إلى غيره مما ورد في الأثر عن رحمة الصغير وتوقير الكبير. هناك منظومة من القيم التي جاء بها الدين الإسلامي وتوارثتها المجتمعات العربية وهي جزء من ثوابتها التي تميزها عن غيرها من الأمم والحضارات، ومن ذلك بناء المجتمع المسلم على توقير الكبير والعطف على الصغير، ورغم أنها بدهية في حياتنا نمارسها بتلقائية إلا أنها تعد قيمة مفصلية في بناء المجتمع تؤسس لمتلازمة من العلاقات والتراتبيات التي تحفظ توازن المجتمع وتوطد أواصره. لا أريد أن يكون هذا مدخلا للحديث عن النظام الأبوي خاصة وأن أنصار المرأة يعتبرون أن هذا النظام هو سبب تخلف المجتمعات العربية، ويشيد بعض الكتاب الغربيين بما حققته الثورات العربية من تحطيمها لفلسفة الأبوة عندما اقتلعت تقاليد احترام الكبير وحولت تفكير الكثيرين إلى فردانية تحكم علاقته بالآخرين فلايصبح هناك كبير يُسمع لرأيه ولارمز يطاع أمره، ولاقدوة يهتدي بسيرتها الآخرون فتؤثر فيهم إيجابا فتستقيم حياتهم وترتقي الفضائل في نفوسهم فيسمون فوق كل معيب. الاحتكام إلى علاقة متوازنة بين الصغير والكبير تمهد لتصالحٍ بين الأجيال يفضي بدوره إلى تكامل التجربة وتراكمية البناء وشيوع روح من التنافس القائم على الاحترام وتقدير منجزات من سبق وتخليد أصحاب الفضل في السبق واعتزاز الأمة بأعلامها ورموزها في شتى المجالات. وأي إضعاف لهذه العلاقة الإيجابية يؤدي بالضرورة إلى شيوع الأنانية والتنافس السلبي والهدم المتعمد لبناء أُسس بجهد السابقين يغدو في الحاضر مجرد أطلال درست لا يلتفت أحد إلى قيمتها المادية والمعنوية. والمتابع لثورة الإعلام ووسائل الاتصال الجماهيرية، ثم موجة (الربيع) العربي يلاحظ تفاقم الفجوة بين الأجيال، فقد تراجع مقدار الاحترام للكبير وسادت روح تصادمية إقصائية تحرك المشهد ولا تعترف بكبير ولا برمز وتلك معطيات تدفع باتجاه مجتمعات أنانية تعيش لذواتها فقط. وقد يجادل البعض بأن الغرب الصناعي تخلص من عقدة النظام الاجتماعي الأبوي فتقدم في كل المجالات بينما تمسك به العرب فكان ذلك مصدر تخلفهم. ومسببات التخلف لايمكن قصرها على عامل واحد كما أن الفردانية التي يعيش فيها الغرب تقدما وتحضرا استبدلت بقوة تطبيق النظام السلطة الأبوية فوضع لكل منشط وتفاعل إنساني ضوابط وقوانين تنظم العلاقة بين الأفراد بدءا بعلاقة الأب بابنه وانتهاء بعلاقة الزملاء بعضهم ببعض في بيئة العمل أو الدراسة. ولذلك لم يؤثر كثيرا في طبيعة العلاقات المجتمعية تفرد الإنسان وانعزاليته طالما أن هناك من يجمع الفرقاء تحت مظلة النظام حيث لايعلو رأس فوق مطرقته. ومع ذلك فإن الأمريكيين على سبيل المثال لايفترون يذكرون باعتزاز "الآباء المؤسسين" في كل مناسبة. ويقيني أن التربية يجب أن تلعب دورا مهما في تأكيد قيمنا الاجتماعية والعمل على عصرنتها دون الذهاب بروحها، ومن المهم التقاء الأجيال خاصة لقاءات الصغار برموز سياسية واجتماعية ودينية واقتصادية وأدبية في داخل قاعات الدراسة بعيدا عن المظاهر الاحتفالية كأن يأتي الأمير والوزير والمسؤول وعالم الدين ورجل الأعمال والفنان والممثل واللاعب إلى داخل فصول المدارس الابتدائية ويترك ساعة مع التلاميذ يقرأ لهم قصة أو يحدثهم عن حياته بأسلوب يعقلونه، ويتبسط في الحديث لهم ويتواضع في تقريب المعاني التي يصعب فهمها فنكون بذلك قد كسرنا حاجز الجفاء بين الأجيال وقربناهم بعضهم لبعض وأوجدنا لغة مشتركة للتفاهم.