المفهوم والتعريف: ... لم تعد القرية عالماً مسكوناً بالوحشة والنفرة والرجعية في ظل الحركة التمدينية والحضارية المعاصرة. بل جاء النَّص الشعري والنص السردي ليحولها إلى كائنات حيوية فيها من الإبداع والتألق ما يعيدها إلى سيرتها الأولى - عالماً من التعالقات العلوية نماءً واستقراراً وجاذبية. وبما أن (المكان) - في النص الشعري أحد مكونات الخطاب الأساسية. بل هو أهم العناصر الفنية في النص الأدبي وهو ما يسميه النقاد الفضاء الشعري، فإنه من الأهمية بمكان إفراده بقراءات نقدية خاصة تجلي قيمته وإمكاناته وتجلياته. وفي هذا الإطار يرى الدكتور الشنطي(1) أن الوجدان العربي يتكئ على موروث كبير من الروابط المكانية استقاها من المدونة الشعرية التي أفاض فيها الشعراء عند افتتاح قصائدهم بذكر الأطلال والدوارس من الآثار المكانية. إن ثنائية/ القرية - المدينة، صُبِغَت في العقل الأدبي بكثير من التجارب الاجتماعية التي أوجدت مخاضاً حضارياً قلب الموازين فيما بين هاتين الثنائيتين. فكان لابد للمبدع أن يعود للمنبع بعد تعرضه للاغتراب النفسي والحياتي والحضاري. فتكونت (القرية) بوصفها فضاءً مكانياً للنص الأدبي شعراً وسرداً. إن (العودة للمنبع) - من قبل الأدباء - كما جاءت عند الدكتور الشنطي، يعني استلهام البيئة المحلية، وصياغة الرؤيا من خلالها، وذلك بالتعامل مع الكائنات الإنسانية من حيث انتمائها لموقعها الاجتماعي والحضاري وكذلك التعامل مع التراث الشعبي ومكوناته والعادات والتقاليد والحرف والمشغولات والفلكلور(2) تعاملاً إيجابياً ضمن خطاب أدبي قادر على بث الدفء والحميمية في العمل الشعري. إن عالمي القرية والمدينة يمثلان فضاءات جاذبة لأصحاب النَّص الأدبي الشعري بما فيهما من عوالم مفتوحة كالبحر والصحراء والأسواق والشوارع، أو عوالم مغلقة مثل البيوت والغرف والمقاهي وغيرها. وعليه فإن القرية هي (المنبع) و(الأصل) وهي الذاكرة البكرية الأولى مصدر الدفء النفسي والحلم الجميل والسعادة الحقيقية- كما تقول الدكتورة هيفاء الفريح(1)، والتي يعود إليها الشاعر، لتكون هي الملهمة والمحفزة بكل ما فيها من جماليات وبواعث تثير الحس وتنمي القابلية للكتابة والإبداع!! ولقد أشار أحد الباحثين إلى تعريف جديد للقرية - كمكان، يستلهم منه الشاعر فضاءات إنتاجه الإبداعي - فسماها (الفضاء الجغرافي)، ذلك أن الخطاب الأدبي - أياً كان - لابد أن تتجلى فيه هذه الفضاءات الجغرافية ولو بحد أدنى حتى يتصور القارئ ذلك الحيز المكاني الذي تنطلق منه وتعود إليه دلالات النص الشعري. ورغم هذه القيمة الكتابية للقرية كفضاء مكاني في النَّص الأدبي الشعري، فإن أحد الباحثين يتعالق مع هذه المسألة النقدية من منظور آخر، فهاهو يقسم الفضاءات الجغرافية إلى نوعين الأول مركزي وتمثله المدينة، والآخر هامشي وتمثله القرية والريف. وقد يتحول النص الهامشي إلى مركزي إذا ما تم بناء النَّص الأدبي على أن القرية أحد العناصر البانية لمرجعيتها النصِّية وفيها الكثير من الدلالات والأبعاد التي تذكر بها وتشير إليها وذلك وفق استراتيجية إبداعية قوامها جمالية الكشف، والانفتاح الدلالي، والتكثيف الرمزي، والتشكيل الجمالي(2). ومما سبق يتضح أننا أمام مفهوم نقدي جديد أسميه (النَّص القروي). ويمكن تعريفه إجرائياً بأنه «النَّص الذي ينتمي للقرية موضوعاً ومادة وأسلوباً وتناولاً(3) أو «النص الذي يستوعب السمات القروية وفضاءاتها وقيمها وعاداتها وتقاليدها ومنجزاتها ولهجتها وكل ما يشير إليها عبر لغة شعرية إبداعية»(4). وبناء عليه تظهر (القرية) في الخطاب الأدبي بصور متعددة تمتد من الواقعي إلى الخيالي، وتلعب لغة الكاتب وصياغته الفنية دوراً مهماً في تصوير (القرية) وكائناتها وملامحها وعوالمها الموحية بالأناسي والحيوات والأصوات والروائح والذكريات الطفولية والعادات والأسماء والنشأة الأولى.. وكلها عوالم ساحرة فياضة ومتدفقة ومؤثرة تنبئ للقارئ أنه أمام عالم فسيح مليء بالوجوه والظلال والصور الإبداعية(1) مما يجعل القرية فاعلاً إيجابياً، كما يجعلها واقعاً كونياً ومؤثراً وجودياً وربما بطلاً خفياً في النَّص الشعري. وهكذا تبدو (القرية/ المكان) بكل حمولاتها الجغرافية والنَّصية، والاجتماعية والتاريخية عالماً من التشكلات النصوصية التي تستمد بكارتها من النص الخام الأولي في صورته الحكائية والتي تنطلق من الواقع دون إضافات بلاغية وأسلوبية، ليبدأ الشاعر لعبته اللغوية في تحويل ذلك إلى منجز شعري، يشي بعالم بكر هو عالم القرية. إذاً (النص القروي) ينطلق - مفاهيمياً وتأصيلاً - من خلال البعد المكاني، أو الفضاء الجغرافي، أو (العودة إلى المنبع)، ذلك أن (القرية) هي المكون الرئ يسي في التجربة النَّصيَّة بكل حمولاتها وقيمها، يتعامل معها الشاعر بحرفية ومقدرة إذ يحول العادي إلى فانتازي، والمعروف المألوف إلى خيال وإبداع، والمنسي الغائب، في طيات التاريخ إلى حضور وتذكار وشاهد ملموس بلبوس معاصرة. ومن هنا فإني أزعم أنني من أوائل - إن لم أكن أول - من استخدم هذا الملمح النقدي تحت هذا العنوان «النص القروي» في دراساتنا السعودية، حيث كانت البداية في العام 1430ه عندما قدمت ورقة عمل نقدية في أمسية قصصية ضمن الموسم الثقافي للجنة الثقافية بالقنفذة التابعة لنادي جدة الأدبي مساء الأربعاء 1430/5/18ه تناولت فيها قصص الشباب المبدعين علي الزهراني (السعلى)، وصالح السهيمي، وأحمد حلواني. وكان عنوان الورقة: وينبؤونك عن القرى!! من النص القروي إلى النص المدني/ قراءة في جغرافية النَّص القصصي (مقاربة نقدية تحليلية)(2). ثم تتالت قراءاتي النقدية تحت هذا الفضاء الدلالي سواء في النَّص السردي، أو النَّص الشعري، وفي هذا السياق تأتي محاضرتنا لهذه الليلة المباركة إن شاء الله. ثانياً: المدونة الشعرية الحداثية السعودية والبعد القروي: تكاثرت بين يديَّ المجموعات الشعرية الحداثية لأبرز شعراء النَّص الحديث في السعودية، والذين شكلوا مدرسة الحداثة الشعرية منذ أواخر الثمانينات الميلادية، وبدأوا في إصدارها ونشرها في فترة ما بعد المد الحداثي في السعودية ما بين عامي 1400ه و1430ه/ 2009-1980م. وبتتبع هذه النصوص الحداثية ومقاربتها نشعر أن النَّص القروي - حسب المفهوم الذي طرحناه - حاضرٌ وبقوة في المدونة الشعرية السعودية منذ البدايات (الثمانينات الميلادية). يومها كان شعر الحداثة يبدأ خطواته الأولى على حذر ومضض وتطلع. وكان النقاد الطليعيون - آنذاك - يتناسلون كالغيث، تجدهم في كل أمسية شعرية عرَّابوها، وفي كل منتدى ثقافي يمدون جسور المعرفة بين النَّص والمتلقي، وفي كل ملحق ثقافي - في صحفنا المحلية - يقدمون مادة نقدية تعرِّف وتجلِّي وتيسِّر!! وذات أماسي من تلك الليالي الحداثية، كان نادي جدة الأدبي يستضيف ثلة من الشعراء الحداثيين أمثال محمد الثبيتي وعبدالله الصيخان ومحمد جبر الحربي وأحمد عايل فقيهي، وعلي الدميني وأحمد الصالح (مسافر) وعبدالكريم العودة وعبدالله الخشرمي، وعبدالله الزيد، وفوزية أبو خالد، وثريا العريض وأشجان هندي... وغيرهم كثير. وفي كل أمسية تكون المواجهة ما بين المتلقي/ المحب للشعر قديمه وجديده، وما بين الشاعر المسكون بالدهشة والتجديد وأفق التحديث، كنَّا نستمع للشعراء يتلو كل منهم قصائده المورقة لغة وصوراً وإبداعاً، وبعدهم يجيء دور النقد والنقاد ليقربوا المفاهيم، ويفسروا المعاني، ويشرحوا ويوضحوا ما في هذا النوع من الشعر الحديث من غموض وأساطير وأبعاد لغوية لم تتعود الآذان السامعة عليها. وفيما بعد، بدأ هؤلاء الشعراء يطبعون دواوينهم الشعرية ويصدرونها توثيقاً واحتفاءً بهذه المرحلة وطروحاتها. وبالعودة إلى نصوصهم الشعرية وما نشروه في دواوينهم يتجلى أمامنا كثيراً من الفضاءات القروية. وفي هذه الوريقات، مقاربات نقدية عن الحضور القروي في الشعرية الحداثية السعودية، من خلال سبعة من رموز القصيدة الحداثية السعودية ومجموعة من دواوينهم الشعرية التي تجترح قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر، أو القصيدة العمودية المتجددة، لعلنا نصل - تطبيقياً - لبلورة مفهوم النَّص القروي (الذي اخترناه ميداناً خصباً لهذا الكتاب الذي نشتغل عليه) في الشعرية الحداثية السعودية. (1) (1/1) ولعل أول ما نستفتح به الشاعر المبدع عبدالله الصيخان الذي أنشدنا - وقرأنا له - هواجسه في طقس الوطن وأخذنا في رحلة قروية عبر مسارب اللغة والمسميات: «قهوة مرة، وصهيل جياد مسومة، والمحاميس في ظاهر الخيمة العربية، راكة في الرمال وفي البال، كيف المطاريش إن زهبوا للرواح مطي السفر». «وكيف الليالي، أموحشة في الشعيب إذا ما تيمم عود الغضا، واحترى أن يمر به الوسم صبحيَّةً، والنشامى يعودون في الليل مثقلة بالرفاق البعيدين أعينهم»(1). هنا تتجلى القرية بأبعادها الرمزية: الخيمة العربية، الرمال، الشعيب، النشامى، وتتجلى كذلك بمسمياتها القروية: المحاميس، الراكة، المطاريش، زهبوا، الغضا، احترى، الوسم، وكل ذلك يدخل في تفاعلات لغوية حداثية دالة على الوطن الذي فاتحه باعتذارية خليلية خالدة: «قد جئت معتذراً ما في فمي خبر رجلاي أتعبها الترحال والسفر ... إن جئت يا وطني هل فيك متسع كي نستريح ويهمي فوقنا مطر وهل لصدرك أن يحنو فيمنحني وسادة، حلماً في قيظه شجر إلى أن يقول: وصب لي عطش الصحراء في بدني واسكب رمال الغضا جوعاً فانحدر»(1) وفي نصه المشهور «فضة تتعلم الرسم»(2) يستدعي من روح القرى وفضاءاتها السعودية، وجغرافيتها العربية هذا الرمز ليُشَرِّح واقعنا السياسي (آنذاك عام 1400ه/1980م)، فهاهي فضة «تخلع خلخالها وتواريه عن عينها» و«تستحيل حصاناً حوافره في دمي» و«صادرني شارع، شالني واستبد بطفل، بدفتره المدرسي ويلبس كوفية وعقال قصب». وهاهي فضة أيضاً: «سألتني المليحة عن شالها/ جلست/ عقصت شعرها...» إلى أن يتجلى هذا الرمز القروي في صورته الشعرية التي يريدها الشاعر ويريدها النص الشعري: «جمعتنا المواجع يا فضة العربية/ وانتعلت فينا لغة القاعدين/ وهذَّبنا الشمع/ وارتحلت في الدم العربي الخيانات/ ضاعت القافلة»(3). وتتجلى الفضاءات القروية - عند الصيخان - في نصه الموسوم ب «أسطورة» الذي يحكي قصة امرأة قروية عشقت رجلاً فتنادي رجال القبيلة وشيخها لتدارس القضية والخروج بحل فقال الشيخ نقتلع شجرة العشق المزروعة في أول الدرب بالقرية وطاوعه رجال القرية فقصوها لكن فرعاً من تلك الشجرة قاوم أهل القرية «فنما ونما حتى أصبح شجرة/ تمتد لتشمل كل الأرض/ من يأكل منها يصاب بداء العشق»(4). (1/2) وفي هذا السياق القروي استمعنا للشاعر محمد جبر الحربي قصيدته (خديجة) التي ألقاها في أول أماسي نادي جدة الأدبي الحداثية (الأحد 29 جمادى الآخرة 1405ه) ففيها نزوع صوفي نحو القرية/ كونها المخلص من لوثة المدينة والواقع العروبوي حين نشرها أول مرة في الصحف، ثم في الديوان الصادر عام 1997م. كانت (خديجة) إحدى القصائد والنصوص المؤسسة لحركة الحداثة الشعرية في الثمانينات، والتي تجعل من القرية منطلقاً للبدايات ومرفأ للعابرين ومنتجعاً للسالكين دروب الحداثة الشعرية. «جاءت (خديجة)/ طلعت فتاة الليل من صبح الهواء/ فأورقت تيناً وزيتوناً/ وألقت للنخيل تحية الآتين من سفر/ فأينعت الوجوه شقائقاً/ ونمت حبيبات الندى مطراً على تعب القرى/ قمراً على الباب العتيق لعالم نسي الحديث الطفل/ والكلم المذاب»(1). هنا نجد القرى المتعبة، دلالة على بدايات التشكل وانطلاقات التجربة حيث (نمت حبيبات الندى مطراً على تعب القرى)!! هذا التعب القروي الذي يتصاعد نحو الكمال والجمال، تعب يتحدى الواقع الأليم وينطلق نحو القمر: «هذا أنا تعب ومرساة وقيد رافض للقيد» «تعب/ وحال الناس في الأرض التعب» «فهذا ساحل الرؤيا، وإن عجت به ريح الشمال وجدت نخيلاً واقفاً بالباب منحنياً جداول جفَّ فيها الطين أسراباً من الوجع المهاجر» إلى أن يقول: «كلا ورب السَّيف والكلمات والمدن الخرافة ما ناشني فرح». ويقول: «تترك الصحراء أنجمها/ وتبحر في ملفات العويل وتترك الأنهار أبناءالقرى/ لتنام في برك السباحة». وكل هذه الفضاءات الحزينة، تحيل إلى الواقع العربي المؤلم!! «فساحل الرؤيا/ عجت به ريح الشمال، والنخيل المنحني واقف بالباب/ والجداول جَفَّ فيها الطين» ولذلك يقسم برب السيف والكلام أنه «ما ناشني فرح»، أي ما مسني ولا اقترب مني أي فرح!! ثم يكون الخلاص من كل هذه التراكمات الحزينة على يد القرية، والقرى والقبيلة، وأبناء القرى فهم «الصرخة الأولى» وهم «لون الماء والأشياء» وهم «لون الجداول» التي نمت على يدها القرى!! ثم يختم نصه بهذه الفرائحية القروية: «نحن الصرخة الأولى/ ولون الماء والأشياء/ لونَّا الجداول/ فاستدار الماء بالأسماك/ واحتفلت على يدنا بميلاد الهواء/ ولونَّا البلابل في صباح غائم بالحب/ اسكَنَّا حناجرنا مفاتيح الغناء ولونَّا القبائل/ ذاب فص الملح والصحراء/ من بحر إلى بحر/ وهبناها مساء الخير والكلمات». إلى أن يقول: «طلعت خديجة من تفاصيل الهواء فأشرقت ونمت على يدها القرى ونمى الهوى أبداً/ وما كذب الهوى كلا ولا كذبت تراتيل القرى»(1) لأن (التراتيل القروية) هي الصدق والحقيقة والأساس والمنطلق وهي البعث والانطلاق والتجديد!! - د. يوسف حسن العارف