الجزء الثاني أذكر في هذا الجزء ما بدأته فيما سبق من النقد لتوجه بعض العلماء والمحققين والمؤرخين المعاصرين للخطأ في ذكر بعض المواضع والأماكن التي لم يحققوا فيها حقيقة الوصول إلى ما ذهبوا إليه؛ وذلك لتركهم الأسانيد الموصلة إلى التحقيق في حقيقة أصل المواضع والأماكن والأشخاص. ولا شك أن الأمانة العلمية مسؤولية جليلة، تدفع باللاشعور إلى تغذية الشعور بحرارة تحقيق المناط والاتكاء على الأسانيد. وليقل من شاء ما شاء شريطة أن يكون السند، وتكون الأسانيد سالمة من الجرح، إنما الإسناد إلى الأثر يقوم على رواة ثقات، لم يتكلم فيهم أحد بنابزة من قول شائن مشين. وقد ذكرت من قبل في الجزء الأول من هذه المجلة المرموقة ما أخطأ فيه ابن زريق وابن شبة والمسعودي في مروج الذهب، وأضيف ما أخطأ فيه أبو الفرج الأصبهاني في كتابه (الأغاني) والآخر (مقاتل الطالبيين). وكتاب الأغاني قد هذبه طه حسين فوقع في الخطأ؛ وذلك أن صاحب الأغاني ذكر ما يقرب من ألف حديث وخمسمائة رواية وأثر، كلها مكذوبة، بمعنى أن أسانيدها باطلة، ومع ذلك يعول عليه اليوم كثير من المحققين وأساتذة الجامعات والنقاد (وما يوم حليمة بسر). ومن هنا أبيّن بعض الأخطاء في المواضع التي جزم بها بعض المعاصرين من المحققين والباحثين؛ وذلك لافتقارها إلى التحقيق بالسند القويم، كلا وبالسند المتين. فمن ذلك: أولاً: موضع قبر علي بن أبي طالب -رضي الله عنه - لم يدفن في الكوفة، بل دفن بعيدًا عنها قرابة ستة أميال ليلا، ولا يعرف قبره إلى اليوم. ثانيًا: رأس الحسين لم يذهب به إلى مصر، ولم يصح هذا، وقد أبطله كثير من المحققين. ثالثًا: وقبر زينب في القاهرة لم يثبت أنه لها، بل لزينب بنت علي المغربي، وكانت من الصالحات، ودفنت قديمًا هناك. رابعًا: قبر آمنة بنت وهب أم النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تدفن في الأبواء. أقول هذا بقاطع من قول متين. فقد أبطله ونفاه إمام الأئمة الطبراني في (المعجم الأوسط) ذائع الصيت عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. خامسًا: موضع مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد جزم أخونا الباحث عبدالوهاب أبو سليمان - وفقه الله للهدى - أنه في موضع المكتبة الآن في مكة شرفها الله. وقد أبطل هذا ثلاثة من كبار العلماء في تحقيقهم لسيرة ابن هشام في الجزء الأول. سادسًا: يزعم بعض الكتاب من أهل العراق أن (الجودي) إنما هو في العراق، والجودي هو الذي رست عليه سفينة نوح - صلى الله عليه وسلم -. وليس هذا بصواب، وإنما هي أقاويل وظنون يظنونها. سابعًا: قبر حواء في جدة لم يثبت بسند صالح أو سند قائم على أصوله أن قبرها - عليها السلام - في جدة، وإنما هي أقاويل وكتابات، وهم هنا لعلهم يقذفون بالغيب. ثامنًا: لم يثبت بسند صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبيت في غار حراء، إنما يذهب إليه يتحنث، يعني يتعبد في قطع من النهار أو في آخره، ثم يعود. ولم يثبت أن صحابيًّا أو تابعيًّا صعد الجبل أو تبرك به، وإنما حصل ذلك في حدود القرن السابع الهجري من بعض المتصوفة. تاسعًا: لم يثبت أن محمد بن أبي بكر ساهم في قتل عثمان، إنما قتله رجل يسمى الأسود من الخوارج، فلما فعل ذلك أصيب بالجنون وهرب إلى العراق ومات مجنونًا، ولم تزل الخوارج إلى اليوم في محن وفتن. عاشرًا: لا يعرف قبر فاطمة - رضي الله عنها - في البقيع ولا (أم سلمة) ولا (جويرية بنت الحارث) ولا قبر (عثمان)، إنما هي أقاويل ورمي بالغيب من مكان بعيد. الحادي عشر: لم يثبت أن البخاري تكلم في القرآن وأنه مخلوق، إنما الذي قاله - رحمه الله - لفظ مخلوق أما القرآن فمنزل. ويتضح من هذا مع ما ذكرته من الكتب إشارة من قريب وإشارة من بعيد إلى ضرورة الخوف من الله - جل وعلا - ألا يرسم الإنسان شيئًا أو يكتبه أو يذيعه إلا وقد تحقق من ذلك كله، وإلا فإن في السكوت منجاة. وإن كان ولا بد فلا بد من الرجوع إلى العلماء الذين يدركون مَواطن القول من خلال الأسانيد وموهبة القدرة على معرفة الصحيح من الخطأ والحق من الباطل.