هذا هو (الجزء الثاني) مما كنتُ قد كتبته حيال تعليقي على ما كتبه الأستاذ العزيز حماد بن حامد السالمي عما ورد في المحاضرة العلمية بنادي الطائف الأدبي، وذلك يوم الأحد 16-1-1433ه. وكنت قد بينت هناك من خلال ذلك التناول التعقيبي في (الجزيرة) الغراء أموراً، تبين من خلالها ما كان قد وقع فيه ثلة من العلماء والمثقفين والنقاد والكتبة من الآثار والقواعد الضعيفة، وقد مر عليهم ردح من الزمن كانوا أثناء ذلك يخالون أن تلك الآثار والقواعد إنما هي من مشكاة النبوة. وقد جاءت التعليقات، وكذا ما كتبه الأستاذ المؤرخ (حماد السالمي)، لافتة للنظر إلى حدٍ كبيرٍ، بل تجاوز الأمر أن تداول تلك المحاضرة وما جرى فيها من آثار وقواعد كان على مستوى هيئات ومجامع علمية ومواقع مرموقة.من هذا وذاك أصرَّ عليَّ نخبة من العلماء والمحققين والكتبة أن أبيِّن أمراً مهماً بصورة بالغة، ومشكلته أن (العوام) قاموا به وأخذوه وصدقوه، بل زاد الطين بلة أنهم آمنوا به، ألا وهو «قبر آمنة بنت وهب» أم الرسول صلى الله عليه وسلم. حقيقة لا يخفى على ذوي الاختصاص العالي الدقيق أن هذا أمرٌ أهمني كثيراً؛ فذهبت، مع حفظي التام للآثار حفظاً عن ظهر قلب، أبحث عن هذه المسألة، وأقلقت نفسي، وأركبتها المفاوز، وتخطت حبالي الصحاري والوهاد، حتى وقفت على ما يأتي، وكأن باباً فتح، وكأن طريقاً مُهِّد، وكأن ماءً حاض فسال به واد وواد وواد، ارتوت على إثره مدن وقرى والوهاد فارتوى من الماء، وحمل منه كل ذي ظمأ وعطش من إنسان وسبع وطير، فالحمد لمن أهل للحمد، فالحمد لله الفتاح العليم. هذا ما وقفت عليه، وهو لوازم التاريخ، ولاسيما وذلك محل ثقة.. وأمانة.. وصدق.. ولات مناص. وقفت على ما يأتي: - صدر خطاب رئيس مجلس الوزراء رقم 4-1375-2 في 5-5-1404 الموجَّه لصاحب السمو الملكي وزير الداخلية، وذلك بناء على ما رفعه سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد رقم 2452 في 17-11-1403، وإجابة عن سؤالكم ترون هنا ما صدر حول هذا، وهو كما يأتي: صاحب السمو الملكي وزير الداخلية، بعد التحية: نبعث لسموكم بطيه نسخة خطاب سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد رقم 2452 في 7-11-1403 ومشفوعاته، المتضمن أنه كتب إليه بأن (قبر أم الرسول صلى الله عليه وسلم آمنة بنت وهب في الأبواء قُرب قرية الخصبة على بعد (40كم) عن طريق مكةالمكرمة، وعليه بناء مرتفع وماشية كثير من الحجاج، وأن سماحته طلب من مدير إدارة الدعوة في الداخل التأكد من ذلك، ورفع تقريراً عنه فأفاد بخطابه رقم 235 في 11-11-1403 المرفق به التقرير المتضمن وصفاً عن الموقع وما يحصل عنده، وأنهم وجدوا القبر في قمة جبل من الجبال، جبال وادي الأبواء، وقد بنيت عليه بناءة يبلغ ارتفاعها متراً ونصفاً تقريباً، وهو مطلي بالرخام الأبيض، وعليه فتحة، وبجواره أرض واسعة تظهر عليها الزوار، وأن سماحته أحال الموضوع لمجلس (هيئة كبار العلماء)، وذلك في دورته الثالثة والعشرين المنعقدة بمدينة الطائف من 30-10 حتى 2-11-1403ه، وبعد تأمل الموضوع والنظر فيه أصدر المجلس توصيته رقم 2-22 المرفقة، والمتضمنة أن المجلس يوصي بهدم البنيان الموجود حول ما يُزعم أنه قبر أم الرسول صلى الله عليه وسلم، وإزالة جميع آثار البناء وما ألحق به من رخام وغيره، وتعمية الطريق المؤدي إليه والخاص به. ورأى سماحته الأمر بتنفيذ مقتضي هذه التوصية.وحيث إن المؤخرين اختلفوا في الموضع الذي دُفنت فيه أم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي بسنده عن ابن مسعود قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في المقابر، وخرجنا معه، فأمرنا فجلسنا، ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فناجاه طويلاً..» الحديث. إلى أن قال «إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب..» الحديث. ويُفهم من ذلك أن قبرها في مقبرة، وليس وحده في رأس جبل، ولأن قبرها لا خصوصية له تقتضي قصده فقصُدُه للدعاء أو الذكر أو غير ذلك ليس من الإسلام في شيء.. إلخ، (فتوى رقم: 20261) في 3-3-1419ه. فتوى رقم: 20261 في 3-3-1419ه: «الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعد.. وبعد: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة المفتي العام من المستفتي (ع.ن.ف) من جدة، والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء، برقم 1474 في 19-2-1419ه، وقد سأل المستفتي سؤالاً هذا نصه: (كثر في الآونة الأخيرة التردد على قبر آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم في الأبواء بحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم زاره، فهل زيارته سُنّة أم لا؟ وهل كان الصحابة والسلف الصالح يزورونه؟ وهل زاره النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة أو مرات؟ ..إلخ). وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بأن المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه مرة واحدة، واستأذن ربه تعالى أن يستغفر لها فلم يؤذنه (يأذن) - جل وعلا - ولم يُعرف عنه صلى الله عليه وسلم أنه كرر الزيارة لقبر أمه بعد ذلك، ولم يُعرف عن الصحابة والسلف الصالح فيما نعلم أنهم زاروا هذا القبر أو ترددوا عليه أو سافروا إليه.. إلخ». هذا نص ما وقفت عليه، وهناك أمر يحسن التنبه إليه في مثل هذا، هو: مسألة الشهرة. والشهرة حتى يتضح أمرها ثلاثة أنواع: الأولى: شهرة الحديث النبوي عند علماء الحديث. الثانية : شهرة الأثر أو القول عند كثير من الفقهاء. الثالثة : شهرة الأمر عند العامة.وهذا ما أعنيه هنا، ذلك أن الشهرة من هذا النوع تسري أبداً حتى تصبح أمراً لازباً لا محيص عنه بل قد تكون الشهرة في هذا أشهر من «الثابت» من الآثار، ولاسيما إذا تعلقت بمسألة عبادة؛ لأن العاطفة تُغذيها، ولأن حب الخير وإرادته جهلاً يدفعان العامي إلى الاعتقاد الحازم بحقيقة هذا المشهور. خذ مثلاً: قصة التحكيم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما حينما اختار علي أبا موسى الأشعري، واختار معاوية عمرو بن العاص. هذه (الرواية) وهذه القصة مبثوثة عبر كتب مهمة في التاريخ والأدب والآثار، وراح كثير من المؤلفين يطريها ويشرحها ويحققها كأنه قد حضرها رأي العين.بينما هي رواية ضعيفة جداً، قال عنها (الإمام الطبراني) سندها هالك، أي ليست بشيء لعدم الثقة بالسند. لكن العوام يلوكونها حتى صدقها عوام المؤلفين من حاطبي الليل الذين يكتبون ما هب ودب بل قد تجد من يقبلها من ذوي النوايا السيئة. وخذ مثلاً: قبر (علي بن أبي طالب) - رضي الله تعالى عنه - فإن المحقق الثابت أنه طُعِن فَجْراً ب(الكوفة)، وتُوفِّي بعد ذلك بقليل، وحين كثر الناس وتكاثروا على (علي) خاف أصحابه عليه فدُفن خارج الكوفة ليلاً بمسافة (6) أميال خشية الغلو فيه، وقبره رضي الله تعالى عنه لا يُعرف حتى اليوم. وخذ مثلاً قصيدة البردة: «بانت سعاد...» التي يزعم بعض المؤرخين والأدباء أن كعب بن زهير بن أبي سلمى ألقاها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. هذه (الحادثة) لم تكن، ولم تحصل؛ ففي سندها جهالة، وأبطلها الإمام ابن كثير، وهو عمدة في الرواية والدراية.. وقُلْ مثل هذا كثيراً {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}. وقبر آمنة وجوده يكفي لكذبه؛ حيث إن هل مكة في الجاهلية والإسلام إذا أرادوا المدينة لا يذهبون تجاه الأبواء، إنما تجاه عسفان وديار هذيل؛ لأن هذا المسلك أقرب؛ فلا يصح إلا أنها سافرت من هذا الطريق دون ذلك. وتحقيق مناط القول فيما يمكن قوله هنا أن قبر (آمنة) لا يُعرف مكانه في طريق عسفان، أما الذي في الأبواء فليس «قبراً» أصلاً إنما ذلك كومة من التراب فوق جبل، اعتقد بعض العوام أنه قبرها، وليس كذلك، وهذا واضح من خلال السبر وتتبع صحة المواقع والآثار. صالح بن سعد اللحيدان - الرياض