بعد أن استقر صاحبكم في أرض الوطن وفي رياض العز بعد غربة الابتعاث والدراسة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، جاء وقت العودة والذهاب مرة أخرى إلى ديار الأمريكيين، وذلك بعد عشر سنوات تماماً نتيجة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر. في صيف عام 2011م، يقرر ورفيق دربه الأستاذ د. عبدالمحسن العقيلي المشاركة في أحد المؤتمرات عن التعليم العالي في مدينة بوسطن، فيركبان السماء نحوها ذاهبين، ويردد دعاء السفر راجياً سلامة الوصول وتيسير الدخول، متذكراً قول الشاعر: تمضي الساعات وتهبط الطائرة ويصطف القادمون على متن الخطوط الألمانية استعداداً لإنهاء إجراءات السفر والدخول إلى بوسطن، حينها كان يحدث نفسه - بعد عقد من الزمن غاب فيه عن أمريكا، إذ غادرها قبل منتصف عام 2001م، منهياً دراسة مرحلة الدكتوراه - يحدثها عن الأسئلة التي سوف يتلقاها من موظفي الهجرة في المطار، ثم هو يدخل بوسطن على حين غفلة من أهلها بعد أن كان خائفاً يترقب، لكنه تسهيل الله وتوفيقه. وبعد أن أمضى مع صاحبه أياماً يحضران ولا يختصران جلسات المؤتمر، يناقشان ويكتبان ويداخلان، فإذا بهما يقرران السفر بعد نهاية المؤتمر إلى المدينة التي عشقاها - أثينز في ولاية أوهايو - بعد أن عاشا بها سنين عديدة يدرسان في القسم نفسه لمرحلة الدكتوراه في تخصص القراءة وفنون اللغة. خلال تلك السنوات، عرف صاحبكم مداخل المدينة ومخارجها، واكتشف ردهات الجامعة ودهاليزها، خالط أهلها كبارهم وصغارهم رجالهم ونساءهم، عاش بينهم ومعهم في قاعة الدراسة وفي الحي السكني، حاول الاقتراب بطبعه الاجتماعي ولم ينزو في ركن خلي. وبعد أن وصلت الطائرة إلى مطار كولومبس في أوهايو، استقل مع صاحبه سيارة يقودها في الليل مجتازاً الطريق للذهاب إلى المدينة الصغيرة التي كانت في أعينهما كبيرة وما زالت، قطع صاحبكم الطريق مع صاحبه في ساعة من الزمن أو تزيد، وعند الوصول بعد عناء السفر جواًَ وبراً، لم يستطيعا الذهاب إلى الفندق مباشرة، بل قررا الوقوف على الأطلال في الحي الذي يسكنانه مروراً بأزقة وشوارع الجامعة، وقوفاً في المركز الإسلامي العريق والعتيد، عندها هدأ البال وارتاحت النفس، ولا بأس الآن بالذهاب إلى الفندق والراحة والاسترخاء، استعداداً لبرنامج اليومين القادمين الحافلين بكثير من الذكريات والجماليات الإنسانية والأكاديمية الرائعة. في صباح اليوم التالي، ها هي شمس أثينز تشرق، وها هي الذكريات تعود: الجامعة والنهر، المكتبة والحديقة، نادي الطلبة السعودي واللقاءات، لكن صاحبكم لا يريد الاسترسال في استدعاء السنين الخوالي مع أنها تهطل عليه بلا سحب. لقد حان وقت الذهاب إلى المبنى (كلية التربية) الذي ألفه وارتاده وقضى فيه سنوات يتنقل من قاعة إلى أخرى، يصعد إلى دور وينزل إلى الآخر، يقابل أساتذته وزملاءه من العرب وغيرهم، لا ينسى أنه تناول تمرات وتراً عندما حان وقت الإفطار الرمضاني وهو في إحدى القاعات ملتزماً بالمحاضرة، ثم يفاجأ في رحلته هذه أن شباب بلده يطلبون إجازة في رمضان بحجة الصيام! الآن يدخل وصاحبه الكلية متجهين لمكتب مشرفهما الدكتور (وليام سميث) على أمل أن يجداه بعد انقطاع عشر سنوات، وما أن دخلا المكتب حتى وجداه على المكتب نفسه في السبعين من عمره يعاني من مرض السرطان ويعمل على أبحاث في القراءة، وما أن سمع طرق الباب حتى استدار والتفت مرحباً بزائريه مبتسماً ثم أذن بالجلوس ليتحدث عن همه وآماله (القراءة)، ثم يسأل عن واقع القراءة في المملكة العربية السعودية وليته اكتفى بذلك لكنه أهدى إلى زائريه نسخة من آخر أعداد إحدى المجلات العلمية المحكمة في مجال القراءة، فقدمنا شكرنا له ثم خرجنا متعجبين من حاله متألمين على أحوالنا! أما اللقاء الثاني فقد كان مع أستاذنا القدير الذي يمر في عقده السابع، متقاعد عن التدريس وليس قاعداً، لم نرد أن نأخذ وقته ونزعجه نظراً لظروفه الصحية، ومع إصراره تواعدنا معه للقاء أوسع وأرحب في الفندق الذي نسكن فيه، فقلت لصاحبي: ماذا سنتحدث حوله إذا زارنا؟ هل نعود لمقرره الذي درسناه معه - حينها كنا نشعر بأننا محلقين بين السماء والأرض - ونعيد الحديث عن فرويد وإريكسون؟ كان اللقاء وصار الحديث الماتع حول موضوعات متنوعة ومختلفة في التعليم في الولاياتالمتحدةالأمريكية وفي العالم العربي، ثم حديث عن التعليم في المملكة العربية السعودية وعن زيارته لها في السبعينات الميلادية، وبعد ذلك عن ثقافة الشعب الأمريكي في نواحٍ متعددة. استمر اللقاء به ما يزيد على أربع ساعات قضت وليتها لم تنته، لكن نهايتها كانت عبارات لم يستطع صاحبكم تجاوزها، ثم لم يستطع كذلك نسيانها، إذ قال قبل أن يستأذن للانصراف: إنني أعيش في العقد السابع من عمري، وعملت داخل الجامعة وخارجها في وظائف متعددة، والآن أريد أن أقدم نصيحة، آملا ألا تغفلاها، أقدمها بعد انقضاء عمري، عليكما الاهتمام بأمرين لا ثالث لهما: «أسرتك وصحتك»، ثم صافحنا وغادر. بقيت وصاحبي في بهو الفندق بعد خروجه لا يحدث أحدنا الآخر، نتأمل في كلامه ونأمل أن نطبق نصيحته، وبقي صاحبكم يحادث نفسه ويلومها على أيام مرت وساعات انقضت دون أن يمشي أو يمارس الرياضة بحجة زحمة العمل والارتباطات الاجتماعية، ثم يلومها مرة أخرى وثالثة على أيام عاد فيها إلى بيته وطفلاه الصغيران نائمين. انتبه إليَّ صاحبي وأشار لنتحدث سوياً فقال: لماذا قال لنا (ماتيوس) ما قال، هل يعرف واقعنا في الرياض؟! قلت له: لا يهم ذلك، لكن علينا أن نفكر فيما وصل إليه الرجل بعد هذه السنين السبعين، ثم أن نعيد ترتيب أولوياتنا ليكون للعائلة وللرياضة أوقات وليس وقتا في أيامنا المعتادة، اتفقنا على ذلك، وعلينا أن نذهب للمكتبة لطباعة أحد البحوث، لكننا لسنا طلاباً في الجامعة، فهل يسمحون لنا بدخول المكتبة واستخدام الطابعة؟ ماذا تتوقع عزيزي القارئ؟ ولكي أساعدك اطرد المقارنة. انتهت المساحة. العائلة والصحة أولاً..