مررت بحلب الشهباء منذ قرون عديدة بصحبة عدة من المؤرِّخين ، كان ابن العديم أحدهم وتحفته البغية وهو من شيوخ حلب المقدَّمين الذين وصفوها، فأطنب وزاد في وصفها حتى يُخيّل إليك أنك من ذاك العصر، تتنقل بين طرقاتها وأسواقها ومساجدها وأحيائها ودورها العلمية وبين علمائها وشيوخها في مختلف العلوم ! شموخ يعانق السحاب وأرض يتجاذبها المجد من كل أطرافها تعاودني ذكراها كلما تلقفت كتاباً في تاريخ الشام وفتحت دفّتيه، كانت حلب شاهدة كعقد وسط جِيد لا بد أن يُزيّن به ! تاريخ الدولة الإسلامية منذ الفتوحات متعلقة بالشام كمحطة رئيسة، وحكاية لا بد أن تختلط بكل الحكايات، وفصل له في كل زمن فصول، وباب ظل مفتوحاً للمجد حتى يومنا هذا ! وحلب واسطة العقد لها السنام الأكبر بعد دمشق الفيحاء !! لعلّي أطير بجناحيّ ذاكرة أغرقت في القدم فأتذكر حلب حين حلّ بها سيف الدولة الحمداني وابن عمه أبوفراس ، وحين جمع غبار معاركه مع الروم وطلب أن تُوّسد له في قبره ، أتذكر حاشيته من العلماء كابن خالويه والفارابي وابن جنّي وأبي علي الفارسي وابن الرّقي ، وحشد من الشعراء يظلونه كسحابة تمطر نُظماً خلّده التاريخ وعلى رأسهم شاعر الزمان والمكان أبو الطيب المتنبي، الذي يقول في حلب وقد شُغف بها حباً : فإن كان أبو الطيب ممن امتلأ حباً بك فلا غرو أن يعشقك من هو دونه ! وإن كان أبو الطيب ممن وصفك فكل المدن بلا شك تغار منك ! فمن يكون بين ذراعي المتنبي فإنما بشعره أتوه المادحون مردّدا ! وأنتِ كنت بين ذراعيه وعينيه وفي فؤاده، فلم يبرح حبك يعاوده حتى وهو بعيد عن ترابك ! تلك الدار ممن يتمنى أن يحويه ذلك المجلس الكبير الذي بساطه يحوطه تزاحم المناكب بعباءات العلم والمعرفة وعمائم الجود والكرم ، ملامح أتصورها وأتخيلها كرسام أمسك بريشته فأبرع وأبدع في الصورة، فلا تزال عالقة لا يمحوها غبار الزمن وتعاقب الليالي ! عندما تقرأ تاريخ حلب يُسرّي عنك ما يحدث لها اليوم حتى وإن عاد نقفور الثاني إمبراطور بيزنطة مرة أخرى بثياب بوتين الروسي ! ليدمر ويبيد ويعبث دون حسيب أو رقيب، وكأنها دائماً على موعد بين الفينة والأخرى منذ القدم مع البيزنطيين والتتار، واليوم مع الروس والفرس الذين لا يقلّون عن أصحابهم همجية وحقداً !! يرتدون نفس معاطف الخراب والدمار لأنّ الأداء والمغزى واحد وإن تغيّرت الأسماء والألسنة ، فقد تعوّدت حلب على غزو الطغاة وتكسرت عليها النصال على النصال، وذهبوا كلهم إلى الجحيم بذكرى اللعنات وسوء المنقلب، وبقيت حلب شاهدة تُسلّم مخروقاً وتعطي مجدداً ! وقد امتلأت الأجفان من الدموع مرة بعد مرة، ولو شاهدني أبوفراس وشاهد تلك الفظائع، لأدرك أنّ هذه الصور لا يمكن للدموع أن تصمد عصيّة ولا يمكن أن أتشيّم بالصبر ! يقول ابن العديم من قصيدة له بعد خراب حلب على يد التتار وكأنه بيننا يعيش نفس الفاجعة اليوم :