الكتابة فعل إنساني قبل أن تكون شكلاً من أشكال الإبداع. هذا الفعل يكمل دورته في فضاء العقول والأوراق، بعضه يرصد ويوثق، وبعضه يذوب قبل أن يعري الزمن مداده الذي كُتب به. الحضور الإعلامي أحد نتاج الكتابة ووهجها.. وتحت تأثير هذه الميزة تصبح الكتابة وسيلة من وسائل البقاء في المشهدين الثقافي خصوصًا، والحياتي بشكل عام. الحضور والشهرة يفرضان على بعض الكتّاب مستوى عاليًا من الالتزام. الالتزام هنا يعني الكتابة تحت ضغط الشهرة والحضور. من هنا يصبح الكاتب أسيرًا لما يطلبه المشاهدون، يتتبع رغباتهم، ويسير باتجاه رؤاهم؛ ليصبح كاتبهم الأول المقروء والمشهور. الالتزام الكتابي المرفوض يُخرج الكاتب والكتابة عن مسارهما التلقائي والإبداعي والأخلاقي إلى أنساق حياتية ممقوتة، قد تكون تكسبًا أو تطبيلاً أو مغازلة لرتبة عالية، قد تصطفيه ليصبح من الحواريين السابقين المقربين. الشهرة تصادر تلقائية الكاتب، وقبلها حريته. الالتزام اليومي بمواعيد ولادة أفكاره يستنزفه، ويجعله عرضة للإفلاس الكتابي والمعرفي، الذي لا يعني التوقف عن الكتابة وجفاف قلمه بقدر ما يجعله يكتب كيفما اتفق وفقًا لما يلتزم به أمام المنبر الإعلامي وسدنته! هذا ما يفسر تفاوت نتاجات بعض الكتاب؛ فيومًا تراه يغرد خارج السرب فكرةً وأسلوبًا وتوقيتًا، ومرة تجده كالبضاعة المزجاة، لا تُباع ولا تُشترى، تشغل حيزًا في الفراغ بلا ثمن. هذا التفاوت منشؤه أمور عدة: إما حالة من التشبُّع الكتابي، تجعله يزهد في الورقة والقلم، وإما زيادة وتيرة الطلب على منتجه المنتظر، لكن موهبته وقدراته لا تخولانه تلبية التزامه اليومي بالحضور، وإما تعدد الأشخاص الذين يكتبون زاويته الأسبوعية أو عموده اليومي، فتجد له كل فترة أسلوبًا مغايرًا لما ألفه القارئ الحصيف. وهذا أمر ملاحظ؛ فبعض المساحات الكتابية ومن خلال تعدد الأساليب المقروءة تجعلك تشعر بأن تلك المساحة أصبحت كالشقة المفروشة التي ينيخ فيها كل عابر سبيل ركائب حوائجه وأمتعته حتى حين! بعض الكتاب يصبح أسيرًا للشعبوية ومتطلباتها الكتابية؛ فتصبح قرارات الحكومة (مثلاً) في مرمى نيران حروفه وأفكاره، يصب عليها جام غضبه وسخطه، يحضر من خلال تسطيح منجزات المؤسسات وتتبُّع زلاتها، وتضخيم أخطائها؛ ليصبح في نظر القراء كاتب المواطن الأول والمتحدث الرسمي باسمه. هؤلاء تعرفهم بسيماهم الأسلوبي وحضورهم الفضائي الذي يجعلهم أمام القارئ الحصيف مجرد ممثلين، يؤدون أدوارًا يفرضها الحضور ومتطلباته الموسمية والسوقية. أما تناقضات البعض من الكتّاب فمرده للحضور ومتطلباته ومصالحه ومعاييره التي تختلف من حين إلى آخر.. فاليوم تجد لكاتب رأيًا صارمًا في قضية معينة، وبقدرة قادر يصبح بعد حين في الجهة المقابلة لرأيه القديم. هذا الكاتب مذبذب في رؤاه ومواقفه، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، يتبع مصلحته الآنية والمتأخرة. تعجب من قدرة هؤلاء وأمثالهم على تلبُّس المرحلة ومقتضياتها، وتعجب أكثر من قدرتهم على الصمود أمام نظرات الشزر التي تصافح وجوههم في كل مكان. الكتابة تحت تأثير الحضور حالة من حالات التكسب بالقلم، ظاهرها الشرف، وباطنها البحث عن ذات ليس لها هوية سوى ترسيخ الأنا الباطلة؛ لتكون مرجعًا، تنطلق منه الحروف والكلمات. نحن هنا أمام سقوط أخلاقي ومعرفي تحت ستار من المصالح والتعقيدات التي تُخرج الكاتب من دائرة الانضباط الأخلاقي؛ ليدلف إلى الالتزام بكل صور الأنانية وحب الذات والانقلاب على كل المفاهيم والأعراف. - علي المطوع