«لأنه العراق» هذا هو التعبير الأقرب للشعور الذي يكتنف أرواحنا حين نقرأ أي شيءٍ كُتِب عن العراق وفي العراق، وهو التعبير الذي أجابني به د.سعود اليوسف عن استفهامي له عن سبب هذا الطرب الذي نشعر به - في المغرد - وكنت أتمنى لو أسهب وقال شيئًا أكثر وضوحًا من غموض سؤالي وغموض إجابته. وهذا المقال هو محاولة للبحث عن شيء من الإجابة التي طالما كنت أبحث عنها منذ أن كنت في الخامسة عشرة من عمري. بصوت الوجع ترتفع أجراس ألفاظ الشاعرين: د.سعود اليوسف، ود.أحمد العمير، الأول في قصيدته «هذه رسائلي إلى أن أعود»، والثاني في قصيدته «في ليلتي»، والعنوانان ينبئان عن بعدين مختلفين: يمثل الأول: الحديث عن العراق بقلب وبروح الإنسان العراقي البسيط بين: أولاده، وحقله، ويمثل الثاني صوت العراقي المثقف: بين طقوصه الشعرية، وبين منتدياته الثقافية. ومن منطلق العنوانين يمكننا الدخول إلى عوالم القصيدتين، إذ يتمثل الحزن لدى كل منهما في طريقة التعبير: فالشاعر د.سعود ينتقي الصور من بيئة العراقي البسيط، فالعراق هو فؤاده الذي تركه إذ لم يمهله الدمار حتى يأخذه، واكتفى بحمل مواجعه على راحلته: «ونسيتُ من عجلٍ فؤادي، عندما حّملت ثقل مواجعي ونحولي»، أي روحٍ هذه التي استطاعت أن تفصل بين الفؤاد والمواجع! وكأنه يقول لنا إن فؤادي-العراق ومواجعي لا يمكن أن يجتمعا، ولهذا أيضًا يصف عمق الأسى الذي خّلفه هذا الفؤاد على الفؤاد ذاته بقوله: «تقسو أيا وطني وقد يقسو على أبويه طفل مترف التدليلِ ... ومددتَ كّف الظلم تصفعني بها فغمستها في فاغم التقبيلِ»، إذ استقى هذه الصورة المبهرة من وحي حياة العراقي البسيط فلا شيء له في هذه الدنيا سوى طفله الصغير، وهذا الطفل هو فؤاده، وها هو قد كبر فما أشد ظلم الولد لوالده! بينما يمثل العراق لدى د.أحمد ثوب قصيده الذي تكتسي به روحه وكل ما حوله: حدائق بابل، الفرات، النخيل؛ ولهذا يعبر عن حزنه الأسود وعن رغبته في الكتابة والعجز عنها في الوقت ذاته بقوله: «يمضي اليراع مُعطشًا صوب المداد كما الضرير» وبأن العراق: «رواية من غضبة الموتى». ولأن «فؤاد» و»يراع» الشاعرين لم يكونا إلا عن حب، نجد أن د.سعود صرح، وأوجز في تعبيره: «من حبي اندلق الفراتّ فليته يسقي على وطن الهوى تأميلي»، لكن الغريب هو أنه عبر بصيغة التمني للاستحالة، بينما كانت الخاتمة أقل قسوةً من هذه الاستحالة: «فاسمع -إلى فجر اللقاء- صهيلي»، فهل كتب خاتمة القصيدة في وقت مختلف وظروف مختلفة؟ أم أن هذا شكلًا من أشكال البحث عن المجد ورموزه والذي بني عليه ديوانه «صوت برائحة الطين»؟ بينما يسهب د.أحمد في التعبير عن هذا الحب بأسلوب مترف بالشعر والثقافة، متخم برغد الحياة، إذ يقول: «ما أوسع الدنيا... إذا غنيت شعري في حدائق بابلية وفراتها من حولها يزهو كعيد تستعذب الزهرات لحني تنثني النخلات... ترقص في ثياب السلطنة وتخاصر الشمس السنية تغمز الصبح الجديد. وأظل ممتلئًا بغطرسة الهوى ببلاط قافيتي عميد وأطرز الكلمات منتشيًا وأحمل في عباءتي القصيد وشوارع الفردوس تجذب خطوتي كي أُنشد المأمون أو أحظى بأعطية الرشيد». في حين تتبدل الأحوال في حديثهما عن الغربة، إذ يعز على د. أحمد الإفصاح عن كل تفاصيلها، ويكتفي بالوقوف على ملامحها؛ فهو شاعر البلاط: «أبقيت كوب الشاي حولي يشتكي من لون عنترة الأسير أمتد في رشفاته أستطعم الصدأ العبودي المرير .... هاذي العراق لا تشتري زمنًا لتحيا فالسنين نوائب تمضي مكبلة القدر والله يفعل ما يريد». بينما يترك د.سعود العنان لقلمه؛ لأنه يخاطب فؤاده ولن يسمعه سواه: «ودعت أعشاشي وفيها أفرُخي وفررت، لم أظفر بغير هديلي أجتث خطواتي وأزرعها، وقد جف الطريق وما حصدت وصولي ... سفر على سفرٍ، وصمت صارخ يا ركضة المجهول للمجهول أنى حللت نبا المكانّ كعشبة تكوينها لا ينتمي لفصولي أنا من أنا؟ وطني هو المنفى وفي إصطبله ثارت علي خيولي ... ما هدني سفريّ ولكن هدني سفر السؤال: متى يكون قفولي». رسالتان الأولى تترقب العودة والثانية انتهت على حطام شرفاته الشعرية.