في ذاكرة الأعمى ما لم تقله ألسنة العشاق، وما لم يسطره كتاب الصحف، في ذاكرة الأعمى ما لم يقله حتى العميان الذين رحلوا عن الدنيا. في ذاكرة الأعمى انثيالات شوق للبوح، وتجاعيد رُسِمتْ على ألواح المدى. يستفزني الواقع بسكوته عن القضايا أو معالجتها بالجدل البيزنطي؛ لهذا أنا أتمرد على كل القناعات، وعلى كل الطرق في طرح كل القضايا، وأنسحب من كل نقاش يسير وفق الخط التقليدي، وأتمرد حتى على من قال، وسيقول لي -بعد هذا المقال- أن العنوان يبعث على التشاؤم ويرسم لي خطًا طويلًا من مصطلحات النور والبصيرة والأمل، مؤطرة بأمثلة من الماضي والحاضر تنتهي بي إلى نقطة في نهاية السطر. نحن نعيش بمشاعرنا لا بأجسادنا، نحن ننتظر معاني الكلمات لا أجراس ألفاظها، وإلا فإننا سنظل حولها ندندن. «أحتاج أن أحيا الحكاية من بداية سردها، من أول النبع القديم، إلى انبجاس الماء حيث الدهشة الأولى، بمنقار الغراب الأعصم»، الدهشة التي تجعلني أعلن قصيدة الحب المسجاة على سرير الانتظار! «لئن نطق اللسان ببعضِ حبي لأعظم منه ما لك في الضمير»، انتظار أن تقتنعوا بأن لهذا الكائن الحي قلب ومشاعر وطبائع ينقصها تصديقكم بقلوبكم ثم يتجلى ذلك في أقوالكم وأعمالكم. الدهشة التي تجعلني أرفض أنصاف كتب، فأولد من رحم الكتاب وأنمو على ضوء فصوله، وأكبر على توقيع كتابي في منصة الأفكار التي يتزاحم عليها المفكرون. الدهشة التي تمنحني حق التفرد، حق التطور: فالعصر مختلف، وأنا شخص مختلف، ولا فائدة من بقائنا في دوامة مقارنة العصور والأشخاص ببعضها. الدهشة التي تقتلعني من الشعور بأني أنا المشكلة في حد ذاتها التي ابتليتم بها، وابتليت أنا بي إلى الشعور بأنني كائن مؤثر؛ بعد أن يصلكم الإحساس بالمسؤولية تجاه هذه الفئة من المجتمع.