تحدثنا في الجزأين السابقين عن عدد من المعتقدات الرافديّة القديمة، ونختم السلسلة اليوم بتسليط الضوء على بعض النقاط العقدية الأخرى المهمة بإيجاز شديد. فالقلق الإنساني من موضوع (الرحيل عن الدنيا) يتجلّى في أعلى مستوياته عند العرب في بلاد الرافدين قديمًا، فقد أخذتْ قضية الموت والمصير مساحة كبيرة من فكرهم واهتمامهم.. ولعل الصورة تظهر بدقة في تقسيم موقف الإنسان الرافديّ من الموت والخلود إلى قسمين هما: أ- إيمان الإنسان السومري بإمكانية الخلود الإنساني في الدنيا والآخرة، من خلال نصوصهم كملحمة جلجامش مثلا وغيرها.. فقد كان ارتباط السومريين بالميثولوجيا وانسجامهم معها، أكبر وأقوى من ارتباطهم بالاستقرار معرفيًا واجتماعيًا. ب- اختلف الوضع نسبيًا عند البابليين، لأسباب كثيرة منها الرفاهية والتحوّلات الاجتماعية المختلفة وغيرها، فتغيّرتْ نظرتهم للآخرة، ومن ذلك تمييزهم بين الناس أحيانًا، حيث جعلوا الخلود الأخرويّ خاصًا بفئة من المجتمع. لا شك أن الكثير من البابليين كانوا يؤمنون بالحياة بعد الموت، بدليل ما نجده في تلك الحضارة من استعدادات مختلفة للرحيل لتلك الحياة؛ ولكن الملاحظ هو أنهم فرّقوا –في كثير من الأحيان- تفريقاً غريبًا ونادرًا بين البشر في موضوع الخلود بعد الموت، فالخلود ليس للجميع، بل هو محصور في الطبقات العليا، طبقة الملوك وكهانهم وغيرهم من علية القوم، أما الطبقات الدنيا كالفقراء والعبيد، فحياتهم تنتهي بالموت، وليس لهم خلود بعده. وخلاصة معتقدهم هذا هي أن الجسد يعود لحالته الأولى، أما الخلود فهو للروح التي تظل هائمة بعد مفارقة الجسد. والحقيقة أن هذا المعتقد البابلي جاء مشابهاً -مع وجود اختلافات- للعقائد السومرية السابقة له. ومن هذا التذبذب والتفريق والتحوّل في النظرة اتجه البابليون إلى دنياهم أكثر، وتميّزوا بالارتباط النفعي بالقضايا الإلهية والدينية، فلم يكن لموضوعات النعيم الأخروي قيمة كبيرة عند البابلي، الذي لم يطلبها بقوة، ولم يقتنع بها وبما يقال عن العطايا التي ستقدمها الآلهة من أشكال النعيم المقيم في الآخرة، بقدر اقتناعه بدنياه وطلبه الرحمة الدنيوية من أسياده وآلهته، بالحصول على المنافع الدنيوية البحتة، كقطع الأراضي وما شابهها. ولذلك وغيره: يتضح من تأمل الفكر البابلي أن علاقة الإنسان البابلي بالآلهة شابها كثير من التوتر، حيث انتشرتْ مثلا القناعة بأن (الآلهة تنقض وعودها)، فقد ساد بين البابليين بقوة أن الآلهة تغدر وتمكر وتخون، مما أفقد الآلهة قيمتها وقدسيتها ومصداقيتها بينهم. وأدّى هذا التصوّر إلى قلق الإنسان البابلي الواضح في كتاباته عن الآلهة، حيث نرى فيها كثيرًا من البعد عنها والنفور منها. ومن أبرز ذلك أنهم يكررون في نصوصهم أفكارًا فيها اعتراض على تصرفات الآلهة، فالإنسان منهم -حتى الكبار- يُقدّم أحياناً كلَّ ما تطلبه الآلهة منه في تشريعاتها وتعاليمها وأوامرها، ويلتزم بكلِّ ما يحثه عليه رجال الدين والكهّان؛ ولكنه في النهاية لا يجني –في كثير من الأحيان- إلا المصائب والكوارث والآلام والسلبيات المختلفة في حياته. ومن هنا ظهرتْ قناعتهم بأن الآلهة ليستْ كلها طيبة عادلة خيّرة، فهناك آلهة شريرة ظالمة لا تمدّ لهم يدَ العون مهما قدموا لها. ونختم بأن الملاحظة الأبرز على فكر بلاد الرافدين وسوريا القديمة، هي (التعدد الكبير في الآلهة) فهذا التعدد رغم وجوده في غالب المجتمعات القديمة، إلا أن العرب القدماء كانوا من أكثر الناس في هذا التعدّد، الذي قد ينظر إليه البعض باعتباره أمرًا سلبيًا يوحي بالضياع وأنهم أقوام تائهة مشتتة. مع أن الصواب هو أن ذلك التعدد في الآلهة، كان يعكس الفاعليات المتعددة في حياتهم، فجاءت الآلهة كمفسرة ومدافعة ومدبرة ومنتجة ومنظمة لهذا الوجود الكبير، بكل ما فيه من تفصيلات وجزئيات فرعية ووجودات أصغر. نتوقف هنا الآن.. ونظرًا لأهمية (ملحمة جلجامش) فسيكون الحديث عنها خاصًا في المقالين الموجزين القادمين، المستقلّين عن هذه السلسلة التي انتهت بهذه المقالة.