قبل أن ألتقيك أنفقت أسابيع لم أعرف فيها أحدًا، ولم أرغب بالتعرف إلى أحد. كنت أقضي الوقت وقتي كله هائمًا متأملاً متسائلاً سعيدًا بلذة الوحدة والجلوس إلى أحزاني وإلى كتبي، ثم جئت تقولين: أيها السيد الذي لا يحدث أحدًا ولا يحدثك أحد سوى كتبك, هل تمانع لو جلست إلي فحدثتني؟ فأجبتك: أن اجلسي. فقاطعتني: لا لا.. ليس هذا النوع من الحديث ما أطلبه. سآتي لك بورقة كل صباح في أعلاها عنوان، وفي المساء أعود إليك فأجد حديثك مكتوبًا. وأضفت بحزم: إنني هكذا أرغب، فإن قبلت سآتيك في الغد، وإن لم تقبل فإنني مغادرة. أومأت لك بالإيجاب، ومضيت تاركة إياي أتساءل عن مدى غرابة سلوكك, غير أنني عرفت أنك تحملين نبوغًا وعمقًا لا يحمله أقرانك. اليوم، ومع الموضوع الأول، أنا أتأكد من صحة رأيي حيالك. سؤال عن الإيمان؟ حسنًا، كنت في الثانية عشرة عندما أخبرنا المعلم عن أبدية الحياة بعد البعث. وحين عدتُ إلى المنزل يومها لم أستطع أن أفكر في أي أمر آخر، ثم أصابتني الرعدة، يا إلهي كيف يمكن لعقلي البشري المحدود أن يفسر الأبدية أو أن يفهمها؟ بعد سنوات في بداية شبابي عرفتُ الحب، وعادت الأسئلة القاسية معه.. كيف يدخل الحب حياة المرء فجأة بكل بريقه ولمعانه؟ وكيف يبهت مع الوقت، ثم يموت؟ لقد عشتُ في مجتمع يخاف المرء حتى من أفكاره الخاصة بينه وبين نفسه, مجتمع كان يحارب الأسئلة، ويحسب كل حديث عن الإيمان أنه متعلق بالقضايا الكبرى.. أنا أيتها الصبية البيروتية لم أكن لأتساءل يومًا عن الإله أو اليوم الآخر, كل الذي كنت أتساءل عنه هو سنن الحياة، هذه التي لا أفهمها. زوال الحب وزوال الألفة وموت المقربين والوحشة والكوارث والألم والغنى والفقر والمعاناة. كنت أتساءل، ثم أتت التجارب، وفقدت الكثير من الإيمان بالناس وبالحب وبالمرأة وبالأصدقاء وبالعرق البشري هذا كله. العرق الذي يقتل بعضه، ويدمر، ويظلم، ويسلب.. وكله باسم الدين مرة، وباسم العدالة مرة.